إختيار كلينتون لأعلى منصب دبلوماسي أميركي بات شبه مؤكد
أوباما يريد محاكاة تجربة لنكولن في تعيين خصومه السياسيين

بلال خبيز من لوس انجلس:إستنادًا إلى المسار الذي يتّبعه أوباما في علاقته بخصومه السياسيين، يبدوأن تعيين هيلاري كلينتون في أعلى منصب دبلوماسي في الولايات المتحدة بات شبه مؤكد. فالرئيس المنتخب، مثلما أشار أكثر من مرة، يريد أن يحاكي في تجربته تجربة الرئيس ابراهام لنكولن، الذي عمد إلى تعيين خصومه السياسيين في الوزارات الأساسية في عهده، المال، والدفاع والخارجية. وبتعيين كلينتون وزيرة للخارجية يكون اوباما قد ضيق الخناق على معارضيه في الحزب الديمقراطي، بعدما كان قد عين جو بايدن نائبًا للرئيس، وهو الذي كان من أبرز المؤيدين لترشيح هيلاري كلينتون لخوض السباق الرئاسي. ويبدو أن تسرب خبر نية اوباما بتعيين كلينتون في هذا المنصب الحساس قد أوتي ثماره، حيث سارع الكثيرون من كبار الوجوه السياسية المعروفة في اميركا إلى تأييد هذا الترشيح بدءًا من زوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، مرورًا بحاكم كاليفورنيا الجمهوري ارنولد شوارزينغر الذي كان من المؤيّدين لجون ماكين خصم اوباما في الانتخابات، وصولاً إلى هنري كيسنجر احد ابرز صناع استراتيجيات السياسة الخارجية على مدى عقود.

وبهذا يكون ملف السياسة الخارجية قد طوي على استبعاد مرشحين اسياسيين ولهما ثالث: المرشح الاول هو السناتور جون كيري، الذي من المتوقع ان يخلف جو بايدن في رئاسة لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ، والثاني هو ريتشارد هولبروك، الذي يرجّح ان يشغل منصباً حساساً آخر في الخارجية تحت إدارة كلينتون. اما الثالث فهو حاكم نيومكسيكو بيل ريتشاردسون الذي يتميز بحنكته الدبلوماسية، وهو من المؤمنين بأن حسن سير المحادثات قد يؤتي نتائج باهرة في مجال السياسة الخارجية، وهذا امر يلقى هوى في نفس اوباما الذي يقول عنه عارفوه انه مستمع ممتاز، وانه يصر على تفنيد كافة الآراء، وغالباً ما يعيد صياغة اراء الذين يلتقيهم بلغة ابلغ مما يستطيعونه. ونادرًا ما يستطيع محاوره ان يعرف رأيه الفعلي.

فضلاً عن ان اوباما يجد في علو كعب جون كيري في الثقافة السياسية ما يلائم هواه ايضاً، فأوباما يمتلك لسان المثقف وشغفه بالمعرفة، وهو ما يبدو واضحاً من سيرة حياته الغنية. اما ريتشارد هولبروك، فلا يوازي جون كيري وهيلاري كلينتون قامة في الحزب الديمقراطي، او في الحياة السياسية الأميركية، لكنه مثقف لامع وحاد الذكاء، إلى حد يبدو معه متشاوفًا على محاوريه. وهو اقرب ما يكون إلى رام عمانوئيل حدة ذكاء وعلو ثقافة، لكنه ليس واحدًا من اعمدة السياسة الأميركية في الحزب الديموقراطي.

اختيار كلينتون لهذا المنصب له اثار ايجابية على مستوى الداخل الاميركي، ويطمئن بعض الذين كانوا يخشون من رقة حاشية اوباما في ميدان السياسات الخارجية، فضلاً عن ان كلينتون تبدو اكثر انسجاماً مع السائد في السياسة الأميركية، واكثر قرباً إلى مزاج المقررين في هذه السياسة من اوباما الذي بدأ للحظة كما لو انه يريد احداث انقلابات جذرية في مجال السياسة الخارجية الأميركية. والأرجح ان كلينتون ستواجه مهمات شاقة في داخل الإدارة الأميركية، وعلى مستوى الملفات الساخنة التي تواجه هذه الإدارة في مناطق مختلفة من العالم. ومن المؤكد ان نظرتها إلى الملف الإيراني تخالف إلى حد بعيد نظرة جو بايدن الذي سبق له ان دعا إلى تفاوض مباشر مع النظام الإيراني، مع مايعنيه ذلك من اهمال لموضوع الدولة الفلسطينية الذي توليه كلينتون اهمية كبرى.

وغني عن القول انها من اوائل الذين دعوا إلى اقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة بعد انتخابها عضواً في مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، فضلاً عن قدرتها على استثمار علاقات زوجها الرئيس السابق في هذا المجال. حيث يمكن القول ان تاريخ زوجها يعطيها دفعة قوية إذا ما احسنت استثمارها قد تصل إلى نتائج باهرة، على ما لاحظ هنري كيسنجر وبيل كلينتون نفسه. في الملف العراقي، لا يبدو ان ثمة تغييراً دراماتيكيًا سيحصل على الخطة الأمنية التي تم توقيعها بين الحكومة العراقية والحكومة الاميركية، وإذا لم تحدث مفاجآت كبرى على المستوى الأمني فإن خارطة الطريق الأميركية في هذا البلد ستبقى على ما هي عليه من دون تعديلات جوهرية. وكلينتون توافق اوباما على التشدد في الملف الأفغاني، مثلما صرحت اكثر من مرة، كما انها تدعو إلى تعاون دولي في ملف الإرهاب تماماًً مثلما يطمح اوباما نفسه.

اما في الملف الإيراني، فقد يكون الأمر بالغ التعقيد، حيث ستصطدم كلينتون، والأرجح ان هولبروك وعمانوئيل سيواليانها في ذلك، مع رؤية بايدن لهذا الملف، وقناعة اوباما بأن الحل الدبلوماسي وسياسة العصا والجزرة قد تكون مفيدة مع الإيرانيين. فيما تبدو كلينتون اكثر تشدداً في هذا الملف وفي الملف السوري ايضاً، لصالح تحقيق تقدم على المستوى الفلسطيني ndash; الإسرائيلي والعربي تالياً.

الملف الشائك الوحيد الذي يبدو ان كلينتون ستفتتحه، هو ملف اميركا اللاتينية، حيث تدعو السيدة الأولى السابقة إلى التشدد حيال كوبا وفنزويلا، وهو ملف مرشح لأن ترشح اثاره إلى الداخل الاميركي في وقت قريب، خصوصًا بعدما ثبت للأميركيين ان العلاقات بين ايران وفنزويلا، وكوبا استطراداً وصولاً إلى كولومبيا والباراغواي، باتت تشكل تهديداً لأمن اميركا القومي والاجتماعي، مما يعني ان الأيام المقبلة ستشهد تسخيناً لهذا الملف من الجانبين، وهو ملف كان غائباً عن حملة اوباما فضلاً عن ماكين.

من جهة ثانية يتوج اختيار كلينتون إلى هذا المنصب مسيرة نسائية حافلة في هذا المجال، منذ جين كيركباتريك، في عهد ريغان، التي اتت من جامعة جورج تاون وشغلت منصب مندوب الولايات المتحدة في الامم المتحدة وشغلت مناصب متعددة في الإدارة الخارجية وكادت ان تصبح اول مستشارة امن قومي في عهد ريغان لولا اعتراض جورج شولتز الحاد وتهديده بالإستقالة من منصبه إذا تم تعيينها في هذا المنصب. مروراًً بمادلين اولبرايت وزيرة خارجية عهد كلينتون التي اتت ايضاً من مجال التعليم الجامعي إلى المنصب نفسه الذي شغلته كيركبارتريك في الامم المتحدة قبل تعيينها وزيرة للخارجية، وصولاً إلى غوندوليزا رايس التي بدأت حياتها السياسية مستشارة لجورج بوش الأب في شؤون روسيا ودول شرق اوروبا، وهو الذي عرفها إلى جورج بوش الابن، الذي سرعان ما اعجب بها وجعلها اول امرأة تشغل منصب مستشار الأمن القومي، في مواجهة عتاة الساسة الجمهوريين من دونالد رامسفيلد إلى ديك تشيني وكولن باول، الذي حلت في منصبه بعد استقالته من وزارة الخارجية، واثبتت انها قادرة على المواجهة والنجاح في الملفات التي تتحمل مسؤوليتها.

لكن اختيار كلينتون لا يأتي من السياق نفسه، فرايس واولبرايت وكيركباتريك جئن جميعاً من المجال الأكاديمي، وهو من مألوف الحياة السياسية الأميركية. ولم تكن اي واحدة منهن ذات حيثية سياسية قبل تعيينها في منصبها، ولئن بقيت اولبرايت في ظل كلينتون الطاغي ولم تستطع تجاوزه، فقد نجحت رايس في بناء حيثية سياسية قد تؤهلها في المقبل من الأيام للعب دور مهم في الحزب الجمهوري، إلا ان ما يجمع بين السيدات الثلاث انهن اتين من الجامعات ولم تكن لهن اي علاقة بالسياسة المباشرة. اما كلينتون فهي السيدة الأولى في السياسة الاميركية التي نافست بشكل جدي في السباق الرئاسي وكادت ان تفوز به، وهي إلى ذلك رقم صعب من ارقام الحزب الديمقراطي والسياسة الأميركية عمومًا.

باختيار كلينتون يكون اوباما قد اعطى اميركا جرعة اخرى من الاطمئنان قد تنعكس ايجابًا على سائر مناحي الحياة فيه، من الاقتصاد إلى السياسة الخارجية مروراً بالسياسات الداخلية. والأرجح ان اوباما الذي يعرف جيدًا من اين تؤكل كتف المصاعب التي تواجهه، لن يفوت هذه الفرصة السانحة.