بعد سنوات العزلة التي عانت منها سوريا إبان فترة بوش الابن، مثلّ انتخاب بارك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة فرصة للتقارب الأميركي ـ السوري مرة أخرى، وقد تمثل هذا الانفتاح في زيارات عديدة من مسؤولي إدارة أوباما لدمشق ولقائهم القادة السوريين، والذي صاحبه حديث عن تخطيط إدارة أوباما للقيام بدور الوسيط في مفاوضات السلام السورية ـ الإسرائيلية التي كانت ترعاها تركيا، والتي توقفت عقب الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة أواخر ديسمبر/كانون الأولويناير/كانون الثانيالماضيين.

واشنطن: صاحب الانفتاحَ الأميركي على سوريا انفتاحٌ سوريٌّ على الدول العربية الشقيقة، بعد فترة من التوتر في العلاقات بين سوريا والدول العربية عقب حرب يوليو وأغسطس 2006 بين حزب الله اللبناني وإسرائيلي والتي وصف خلالها الرئيس السوري بشار الأسد قادة الدول العربية بأنهم quot;أنصاف رجالquot;. وقد سبق هذا التوتر اتهام جُلِّ الدول العربية سوريا بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري القريب من معظم قادة الدول العربية.

ويرى محمد بازي الباحث في شؤون الشرق الأوسط بالمجلس، أن سوريا تسعى إلى أن تكون قوى مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط من خلال تأثيرها على ديناميات المنطقة التي هي مصدر قوة سوريا، لاسيما وأن سوريا ليس لديها احتياطات نفطية وغاز طبيعي تملكها قوة للتأثير في المنطقة، ناهيك عن ضعف اقتصادها. ويضيف بازي سوريا تريد أن تقنع القوى العربية والغربية خاصة الولايات المتحدة أن الدور السوري مهم في تحقيق استقرار العراق وأمن لبنان وأي اتفاق سلام بالمنطقة.

وعن مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا حول مرتفعات الجولان والتي توقفت في وقت لا تبدي فيه الحكومة الإسرائيلية الجديدة رغبة في المضي فيها يرى بازي أن اتفاق سلام بخصوص الجولان يصب في المصلحة الإسرائيلية لاسيما مع توافر قيادة سورية قادرة على تحقيقه في وقت تغيب فيه القيادة الفلسطينية التي تمتلك قوى مماثلة لتحقيق اتفاق سلام فلسطيني ـ الإسرائيلي. فضلاً عن الصراع السوري ـ الإسرائيلي أقل تعقيدًا من نظيره الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

وبشأن العلاقات السورية ـ العراقية، يتحدث عن أسباب الخلاف وعن الرغبة السورية في الحفاظ على علاقات طبيعية وجيدة مع جارتها العراق. ويضيف إن القادة السوريين قد ينتظرون نتائج الانتخابات القادمة ليعرفوا من رئيس الوزراء القادم. وإذا استمر المالكي فستلجأ سوريا إلى طهران للعب دور الوسيط في تهدئة أوجه التوتر بين سوريا والعراق. في ما يلي نص الحوار:

بعد فترة من العزلة تنفتح الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية دبلوماسيًّا على دمشق. كيف ترى هذا الانفتاح؟

تسعى سوريا إلى تحسين علاقتها مع واشنطن، وفي الوقت ذاته تحاول تحسين علاقاتها مع الدول العربية الشقيقة. فبعد فترة من العزلة، رأى السوريون في انتخاب الرئيس باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة فرصة لتغير دمشق علاقاتها مع واشنطن. فخلال إدارة بوش سعى السوريون لتواصل مع الإدارة بطرائق مختلفة، لكن كل المحاولات كانت تقابل برفض من إدارة جورج دبليو بوش. فجميع محاولات التواصل المباشر أو غير المباشر من خلال بعض القوى العربية مع إدارة الرئيس جورج بوش لم تنجح. ومنذ انتخاب الرئيس أوباما، ينتظر السوريون الفرصة للعمل مع الإدارة الجديدة. فقد أبدوا عن سعادتهم لاستقبال مبعوث الرئيس للمنطقة جورج ميتشل أكثر من مرة خلال فصلي الربيع والصيف، ومسؤولي الإدارة الآخرين، على الرغم من شكوى السوريين بأن التحركات الأميركية ليست كافية حتى الآن للانفتاح على سوريا.

وعلى الصعيد العربي بدأت سوريا في إصلاح علاقاتها مع الدول العربية، وهنا تأتي محاولات سوريا للتواصل مع المملكة العربية السعودية بعد فترة من توتر العلاقات بين البلدين خلال السنوات الماضية. وقد توترت العلاقات بين البلدين مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الذي كان مقربًا جدًّا من المملكة العربية السعودية. وعقب هذا الحادث ألقت المملكة وعديد من الدول العربية باللائمة على سوريا بطريقة أو بأخرى لتورطها في عملية الاغتيال. وزاد التوتر في العلاقات السورية ـ السعودية والسورية ـ العربية في صيف عام 2006، عندما وصف الرئيس السوري بشار الأسد القادة العرب بأنهم quot;أنصاف رجالquot; . وهذا الوصف كان إلى حد بعيد إهانة للقادة العرب، لذا نأى القادة العرب بأنفسهم عن سوريا وقيادتها في تلك المرحلة.

ماذا تهدف سوريا ـ من وجهة نظر سوريا ـ من الانفتاح على واشنطن؟ هل تهدف، ببساطة، إلى تخفيف العقوبات؟

إن هدف سوريا لتخفيف العقوبات التي تفرضها واشنطن عليها جزء من المعادلة. لكن سوريا تلجأ إلى واحدة من أكثر الاستراتيجيات فعالية في المنطقة: إنها تريد أن تبقي كل خياراتها متاحة وأن تلعب مع الأصدقاء والأعداء في آن واحد. فقد أدرك نظام بشار الأسد أن أهم حلفائه الإقليميين، إيران، يمكن أن تكون مهددة بفرض عقوبات جديدة وإلى مزيدٍ من العزلة الأميركية والأوروبية في حال إخفاق المفاوضات النووية مع إيران، والذي سيؤثر عليها بصورة غير مباشرة. فتعتمد دمشق على طهران في الحصول على المساعدات، وتعتمد سوريا على إيران في الحصول على الدعم العسكري. وإذا كان الإيرانيون يواجهون مأزقًا في المستقبل فإن سوريا أدركت أن عليها البحث عن سبل أخرى. وخوفًا من استبعادهم من صفقة إقليمية فإنها تسعى إلى مد يدها لإدارة أوباما وتحاول إصلاح علاقاتها مع القوى العربية، وخاصة مع المملكة العربية السعودية.

يرى البعض أن نهج العزلة الذي تبنته إدارة الرئيس جورج بوش حيال سوريا كان صائبًا. فقد كتب إليوت أبرامز، من مجلس العلاقات الخارجية ونائب مستشار الأمن القومي الأميركي بإدارة بوش، في مجلة ويكلي ستاندارد أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها التفاوض مع سوريا التي تقدم دعمًا مستمرًّا للإرهاب. هل ابرامز على حق؟

لست مع الرأي الذي يذهب إلى أن سوريا حاليًا دولة مارقة بصورة كاملة. فسوريا لم تعد تتدخل في الشؤون اللبنانية أو العراقية، ولكن في مناطق أخرى فإنها تتدخل، فسوريا لديها تأثير على الفصائل الفلسطينية خاصة حركة حماس. وهذه هي الطريقة التي تستمد من خلالها سوريا قوتها بالمنطقة، فليس لديها مخزون نفطي ضخم واقتصادها ضعيف. ولذلك فليس لسوريا تأثير في جميع أنحاء الشرق الأوسط. تمارس سوريا تأثيرًا في المنطقة بدورها القوي في الديناميات الإقليمية بشكل جيد للغاية، وإجبار الجميع ـ جميع القوى الأخرى في المنطقة والقوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وأوروبا ـ للتعامل معها.

يريد السوريون إقناع الجميع بأنه من المستحيل تحقيق الاستقرار في المنطقة بدون مساعدتهم، فاتفاق للسلام مع إسرائيل، والمصالحة الوطنية الفلسطينية ، وعراق مستقر وأمن لبنان، كل هذا لابد أن يمر عبر سوريا. وعلى الرغم من الدعم السوري للجماعات المتشددة والتدخل في شؤون عدد من دول المنطقة إلا أن القادة السوريين براغماتيين. ويدرك السوريون أن لديهم كثيرًا من أوراق اللعب والضغط، فهم يسعون إلى ممارسة أكبر قدر ممكن من التأثير. أنهم يريدون ممارسة تأثير على أكبر قدر ممكن، وتسعى إلى إقناع كافة القوى بأن لسوريا دورًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار الإقليمي.

كيف تنسجم إسرائيل مع كل هذا الانفراج؟

أبدت بعض الإدارات الإسرائيلية السابقة عن قلقها من تقليص النفوذ السوري في لبنان؛ لأن كثيرًا من المسؤولين الإسرائيليين يرون أن لبنان يكون أكثر استقرارًا في ظل الهيمنة السورية. وهو الشيء الذي يغضب الكثير من اللبنانيين، وإدارة بوش لم تقتنع بهذا الرأي الإسرائيلي، ولم تأخذه في الاعتبار. وبعد إجبار الجيش السوري على الخروج من لبنان عام 2005 بعد اغتيال الحريري، وجدت سوريا وسائل جديدة لممارسة ضغط على لبنان، فمازالت تمارس نفوذًا كبيرًا على حزب الله والأحزاب المعارضة التي هي متحالفة مع حزب الله الآن. وتتنوع أوجه التأثير والنفوذ السوري ما بين اقتصادي ومخابراتي بجانب محددات أخرى للتأثير. وقد بدأت حكومة إيهود أولمرت مفاوضات برعاية تركية مع السوريين حول مرتفعات الجولان.هذه المفاوضات كانت بادرة إيجابية، وخاصة وأن إدارة بوش كانت تسعى إلى عزل دمشق.

لا تظهر الإدارة الإسرائيلية الحالية رغبة قوية في الانخراط في مفاوضات مع السوريين سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن الأمر قد يتطلب بعض الضغوط الأميركية والغربية على الإسرائيليين لحملهم على الجلوس مع السوريين، حتى لو كان من خلال قنوات غير مباشرة من خلال تركيا. وهناك مصلحة إسرائيلية للتفاوض مع السوريين، سواء من خلال مفاوضات مباشرة أو غير مباشر لأن لدى سوريا زعيم قوي قادر على إنجاز اتفاق سلام مع إسرائيل، في حين أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس غير قادر على التوصل إلى اتفاق سلام. وقضايا الصراع السوري ـ الإسرائيلي أقلَّ تعقيدًا من الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ولكن السؤال الهام هو: هل هم على استعداد لإخراج حماس، وعزل الفصائل الفلسطينية الراديكالية المتواجدة في دمشق؟، هل إنها ستكون على استعداد لقطع كل علاقاتها مع حزب الله؟ والسؤال الأكثر أهمية يتمحور حول إمكانية تقديم دمشق تنازلات في مقابل الجولان.

ننتقل إلى العلاقات بين دمشق وبغداد. مؤخرًا اتهم قادة عراقيون سوريا بالسماح لمتشددين بالعبور إلى العراق، ونتيجة لذلك قطع كل منهما علاقاته الدبلوماسية مع الآخر. ما وراء التوترات المتصاعدة هناك؟

فوجئت سوريا بالتدهور السريع في العلاقات مع الحكومة العراقية بعد تفجيرات أغسطس من العام الجاري التي أسفرت عن مقتل أكثر من مائة شخص حسبquot; سي إن إنquot;، وقد رأى السوريون في نوري المالكي شريكًا محتملاً، فقد أمضى المالكي عدة سنواتٍ في المنفى في سوريا ولبنان. ويرتبط نوري المالكي بعلاقاتٍ وثيقة جدًا مع إيران، ولذا ليس لدى السوريين أمل في تشكيل حكومة أفضل في بغداد. لكن رئيس الوزراء المالكي قد قرر تركيز الاهتمام على سوريا وعلى وجود البعثيين العراقيين في سوريا لأسباب محلية خاصة أنه يأمل في كسب التأييد الشعبي داخل العراق من خلال التركيز على هذا العدو الخارجي، وعلى هذا التدخل الخارجي المزعوم من جانب السوريين. ولكن النظام السوري فوجئ بسرعة تحرك الأحداث، حيث سحبت العراق سفيرها من دمشق، واتهام حكومة المالكي دمشق بإيواء العقل المدبر وراء الهجمات الانتحارية في بغداد. ومازال العراقيون يصرون على أن سوريا يجب أن تسلم عددًا من البعثيين العراقيين السابقين في المنفى، في حين تطلب دمشق من العراق أدلة لتأييد هذه المزاعم.

على الأرجح سينتظر السوريون نتائج الانتخابات العراقية المقبلة لمعرفة ما إذا كان نوري المالكي سيظل رئيسًا للوزراء، وفي هذه الحالة فإنها بحاجة للتواصل مرة أخرى مع العراق من خلال الوساطة الإيرانية لتهدئة التوترات مع المالكي. فالسوريون مهتمون بوجود علاقة جيدة مع الحكومة العراقية. فالعراق دولة جارة لهم، وهناك ما يقرب من 1.5 مليون لاجئ عراقي يعيشون في سوريا يشكلون عبئًا ثقيلا على البنية الاجتماعية السورية، لذلك فمن مصلحة سورية وجود علاقات طيبة مع جاراتها الشقيقة العراق.

كيف يمكن أن يؤثر الفتور بين بغداد ودمشق على الخطط الأميركية لسحب القوات؟

منذ الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003 والمسؤولون الأميركيون يتهمون سوريا بأنها تسمح للمتشددين والمسلحين عبور الحدود من سوريا إلى العراق. وهذه الاتهامات تظهر وتختفي اعتمادًا على الوضع السياسي العام. عندما يكون هناك توتر بين العراق وسوريا، أو بين الولايات المتحدة وسوريا عادة ما تظهر تلك الادعاءات.هذا ويؤكد السوريون على أنهم قد استثمروا الموارد والقوى البشرية لإحكام قبضتهم على الحدود. ويقولون إنه من الصعب السيطرة عليها، وتلك حقيقة فالتكنولوجيا والقوى البشرية التي تمتلكها سوريا ليست كالتي يمتلكها الأميركيون للسيطرة على الحدود.

في واقع الأمر قد يسمح السوريون بمرور المسلحين حدودها إلى العراق إذا رأوا أنه يعزز المصالح السورية السياسية في العراق. ولكن من الصعب الحكم على الإدعاءات بأن سوريا تسمح بمرورهم لأن الحدود ذاتها من الصعب السيطرة عليها، وأيضًا لأنَّ السوريين في فترات مختلفة قد عانوا من ردة فعل هذه الجماعات المتشددة. فهناك عدة تفجيرات متفرقة في دمشق والمناطق المحيطة بها والتي كان يلقي باللائمة فيها على المتشددين الإسلاميين. ولسوريا تاريخ سيئ مع المتشددين الإسلاميين ففي بداية الثمانينيات من القرن المنصرم قمع نظام حافظ الأسد بوحشية جماعة الإخوان المسلمين في مدينة حماة. فلدى سوريا حساسية بشكل خاص حول هذا الموضوع، والتعامل السوري مع المتشددين الإسلاميين بمثابة اللعب بالنار.