رام الله: يقع الفلسطينيون في الضفّـة الغربية وقطاع غزة ضحايا أنفسهم أيضا، حيث حالات الاعتقال السياسي المتعدّدة وانتهاك الحريات العامة، وحتى القتل على خلفية سياسية. ولم تمنع حرب الثلاث وعشرين يوما، التي شنّـتها إسرائيل على غزّة أواخر شهر ديسمبر الماضي شيئا من ذلك، بل فاقَـمتها.

وسجّـلت quot;الهيئة الفلسطينية المستقلّة لحقوق المواطنquot; في تقريرها الشهري الأول للعام الحالي، العديد من الانتهاكات من قِـبل أجهزة الأمن في الضفّة الغربية، وكذلك الحكومة المُـقالة في غزّة.

وتشير الهيئة، التي يُـديرها مجلس مفوّضين مستقل وتُـموِّلها خمسُ دولٍ أوروبية، إلى تزايد حالات القتل، نتيجة quot;فوضى السِّلاحquot; من قِـبل ملثّـمين، خصوصا في قطاع غزّة. وعادةً ما تتّـهم حركة فتح والسلطة الفلسطينية، حركة حماس وأجهزة حكومتها في قطاع غزّة، بالوقوف وراء ذلك.

لكن الحركة الإسلامية المُـسيطرة على قطاع غزة، ترفض هذه الاتِّـهامات، وحين تعترف ببعض الحالات تقول، إن مَـن قُـتِـلوا، ليسوا سوى quot;عُـملاءquot; لإسرائيل وأن لديها ما يُـثبت ذلك.

وتشمل الانتهاكات، تزايد حالات الاعتداءات على السلامة الجسدِية للأشخاص واستمرار الحجز والاعتقال، دون محاكمات، وإصدار أحكام من قِـبل محاكم عسكرية، إضافة إلى منع التظاهرات والاعتداء على الصحفيين وحبسهم والاعتداء على المُـتظاهرين.

وتشكِّـل قضية الاعتقال السياسي، أحد أهم القضايا الخلافية، التي تعترض طريق استئناف الحِـوار بين حركتَـيْ حماس وفتح، لكن يبدو أن عملية الإعتقال هذه أصبحت ورقة يستخدِمها كلّ طرف للضّـغط على الآخر.

وبالرغم من أن حركة حماس تتحدّث عن وجود ما بين 500 إلى 600 معتقل لدى أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فإن السلطة الفلسطينية تستمِـر في إنكار ذلك وتُـصر على أن من تحتجزِهم ليسوا سوى أشخاص quot;متّـهمين بقضايا جنائيةquot;.

لكن شخصيات فلسطينية التقت الرئيس محمود عباس مؤخّـرا وأثارت معه قضية الاعتقال السياسي، تؤكِّـد أن العدد يقارب 400 معتقلا. وقد تمكّـن ممثلون عن منظمات إنسانية محلية من زيارة عددٍ من هؤلاء المُـعتقلين مؤخرا. وفي المقابل، تُـصر حركة حماس على أن من تحتجزهم في غزّة quot;ليسوا معتقلين سياسيينquot;.

وامتدّت الانتهاكات لتشمل حرية التعبير، حيث مُـنعت تظاهرات في كلٍّ من الضفة الغربية وغزّة وجرى الاعتداء على متظاهرين واعتقال صحفيين.

مرحلة quot;أمنيةquot; جديدة

وبالرغم من أن ظاهرة انتهاك الحريات في المناطق الفلسطينية بأيدٍ فلسطينية تعود إلى بداية الحكم الذاتي، إلا أن تطورات الأعوام الأخيرة، لاسيما مرحلة ما بعد وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات (نوفمبر 2004) أخذت منحى جديدا في الضفة الغربية.

وما لبثت الأمور وأن تصاعدت في غزّة مع سيطرة حركة حماس على القطاع في صيف عام 2007، وقد أدّى الصراع السياسي بين حركة حماس من جهة، وحركة فتح والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى، إلى دفع الوضع إلى مرحلة جديدة.

ويعتبر الصحفي نبهان خريشة أن فترة الحرب الأخيرة في غزّة quot;شكّـلت مناسبة للتنفيس عن الضّـغائنquot;، بين حركتيْ فتح وحماس، ولكنه يقول إنه يتوجّـب الإشارة إلى quot;المرحلة الأمنية الجديدة التي دخلتها أجهزة الأمن بحلول عام 2005quot;.

ويرى خريشة وآخرون، أن هذه الفترة quot;تميّـزت بسيطرة كبيرة للأجهزة الأمنيةquot; على مجمل الأوضاع في مناطق السلطة الفلسطينية. وفي قطاع غزة، لم تتأخر حركة حماس عن إطلاق يد أجهزتها الأمنية في السيطرة على مختلف جوانب الحياة، وهي مرحلة تميّـزت بشكل أساسي بالتخلّـص من مُـعظم كوادر وقيادات الأجهزة الأمنية من خلال إحالتهم على التقاعد. وقد شكّـل هذه الأمر منعطفا كبيرا في انتقال السيطرة من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية المُـخضرمين إلى قيادات شابة جديدة تدرّبت بإشراف أجانب وفي دول غربية وعربية.

وتعمل الأجهزة الأمنية على تمديد فترات اعتقال لناشطين مُـعتقلين لديها من خلال استصدار قرارات محاكم عسكرية تسمح بالحَـبس لمدة ستة أشهر دون محاكمة، ثم الإفراج عن المعتقل في نهاية الفترة ومعاودة اعتقاله بعد يوم أو ليلة من إطلاق سراحه، كما في حالة فريد حماد، المحرّر في صحيفة quot;الأيامquot; والمُـعتقل منذ أكثر من سبعة أشهر.

وتتّـهم السلطة الفلسطينية حماد بـ quot;سوء الائتمانquot; بصفته رئيسا لجمعية خرّيجي المعاهد والجامعات في بلدته سلواد، شمال شرق مدينة رام الله بالضفة الغربية، وقد أبقت على اعتقاله بالرغم من صدور قرار من المحكمة العليا الفلسطينية بالإفراج عنه.

ويُـقر عدنان الضميري، الناطق باسم الأجهزة الأمنية لدى السلطة الفلسطينية، بوجود quot;إشكاليات في وضع الحريات بعد انقلاب غزّةquot;، لكنه يقول quot;ليس لدينا مُـعتقلين سياسيين. نحن نقوم بإنفاذ القانونquot;.

وأضاف quot;الحرية لا تعني الفوضى. ونحن نسمح بالتظاهر والإحتجاج في إطار النظام، لكن دون الاقتراب من مناطق الاحتكاكquot;، في إشارة إلى منع المتظاهرين من الوصول إلى مواقع الجيش الإسرائيلي، لمنع حدوث مواجهات، وبالتالي، وقوع ضحايا.

لا حريات دون حرية

وإن كان انتهاك حريات الفلسطينيين على يَـد آخرين من لَـدُنهم يُـثير شجونا وحزنا وتساؤلات عن واقع الحياة المعقّـد الذي يعيشه أكثر من ثلاثة مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أنه لا يمكن إغفال حقيقة عدم حصول الفلسطينيين على حريتهم وانعتاقهم من الاحتلال.

ولا يلبث الفلسطينيون الانفكاك من تناقضاتهم الداخلية، حتى يجدوا أنفسهم مجدّدا في مواجهة التناقض الأكبر الممثّـل في الاحتلال. المفارقة، أن تزايد حالات انتهاك الحريات تزامَـن مع الحرب الأخيرة التي دمّـرت إسرائيل فيها ما تبقّـى من ممتلكات وبنية هشّـة في قطاع غزة.

وبالنسبة للصحفي خالد العمايرة، مراسل صحيفة الأهرام ويكلي في مناطق السلطة الفلسطينية، فإن اعتقاله أكثر من مرّة من قِـبل أجهزة الأمن الفلسطينية، كان آخرها مع نهاية أيام الحرب الأخيرة على غزّة، يُـعتبر نموذجا على هذه المفارقة.

ويقول العمايرة quot;لاشك أنه أمر يُـثير المرارة بشكل كبير جدّا. أن تُـعتقل من قِـبل الاحتلال الإسرائيلي، أمر طبيعي جدّا، أما أن نُـهان ونُـعتقل من قِـبل سلطة تقول إنها تدافع عن الشعب، فهذا أمر خطيرquot;.

وأوقفت أجهزة الأمن الفلسطينية العمايرة (50 عاما)، الذي يقطن في بلدة دورا قُـرب الخليل في جنوب الضفة الغربية، بعد ظهوره على شاشة قناة quot;الأقصىquot; الفضائية، التابعة لحركة حماس، واعتُـقل لمدّة يومين وجرى التحقيق معه حول إطلاقه تصريحات تقول إن السلطة الفلسطينية quot;كِـيان خاضعquot; لإسرائيل.

بيد أن العمايرة، الذي لا يقلِّـل من أهمية تناول انتهاك الفلسطينيين لحرياتهم، وينظر إليها على أنها quot;نتاج تلهف سياسي يُـريد دفع الصحفيين إلى ممارسة رقابة ذاتيةquot;، يَـعتبر أن مثل هذا الأمر يظل ثانويا في ظلّ الاحتلال.

ويقول quot;هذه أعراض ثانوية، صحيح أنه إذا فسدت السياسة، لن تجِـد صحافة صالحة، لكن المشكلة الأساسية هي في الاحتلال الذي يغتصب حرية الفلسطينيين، وبدون هذه الحرية، لن تكون هناك حرياتquot;.

هشام عبد الله