عمر البدوي من جدة: لا يمكن أن تذكر الإعلام السعودي من دون أن تتذكر اسم عثمان العمير الذي لا يكف جدلاً ولا يشبع من الهرولة في حرم الصحافة. العمير الذي اشتغل في حقل الإعلام أكثر من 40 عاماً، تقلد فيها مناصب عدة، من ضمنها رئاسة تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، لم يتوقف، فما زال يذرع هذا المضمار بطوله وعرضه عبر «إيلاف» التي أطلقها متسقاً مع التغيير الذي يؤمن به ويمارسه في حياته قبل أن يغرقه بحتميته غير الرحيمة.
العمير مدينٌ أبدي للعراق، كما قال مرة! دينُ العراق يبدأ منذ الطفولة وتباشير الحياة، إذ كان ممكناً أن يكون عراقياً بالولادة لو قرر والده الخروج من مدينته الصغيرة «الزلفي»، ولحق بإخوته الأربعة الذين تركوا السعودية وسافروا إلى هناك.
ديون العراق عليه كثيرةٌ، وكبيرة في الثقافة التي شربها حتى الثمالة، والحبّ الرائع الوارف الذي كان في لندن، لكنه بغدادي خالص المعنى والمبنى، ثم في الأصدقاء والأساتذة الذين تعلم منهم أكاسير الحياة وتجاديف التجربة ومسالك المعرفة، وهذا دينٌ للعراق أو ديونٌ لا تعدُ ولا تردُ، ولا يحتملها شخصه الضعيف، بحسب قوله.
«الحياة» تحاول أن تستوضح رأي العمير في ظل الظروف غير التقليدية التي تمر بها المنطقة والسعودية.. وفي ما يأتي نص الحوار الذي تناول عدداً من قضايا المنطقة الراهنة:
* تعيش طائفة من الإعلاميين السعوديين في المهجر منذ مدة، لماذا لا يتعامل السعوديون مع تجاربهم كما يتعامل الشوام مثلاً مع تجاربهم المهجرية، مثل التأريخ له والكتابة عنه وتسجيله للتاريخ؟
- هناك فارق في الزمان والمكان بين الهجرة السعودية للخارج ومثيلتها الهجرة الشامية. حدثت الثانية في القرن الـ19، حيث لا ثورة تكنولوجيا ولا اتصالات، فظهر الحنين والشوق، وكان فوزي معلوف وجبران والريحاني وإيليا أبوماضي. والدليل أن تجربة المهجر بزخمها وألقها لم تتكرر من جيل القرن الـ21.
أما الهجرة السعودية فكانت انتقالاً جغرافياً، تغييراً في الملابس لا في المخيّلات، أو في قوانين العيش والتواصل. قلَّ أن ينقطع السعودي عن بلاده عاماً واحداً، فضلاً عن احتكاكه بالسعودي في الخارج أكثر من الوطن. ليس معنى ذلك أنه ليست ثمة تجربة لا بد أن تُحكى، ربما أننا نستهين بالنهاية الحتمية فنؤجل ونؤجل. يطوف بي سؤالك دائماً، فأطفق كاتباً حول لندن بكل دهاليزها السياسية والتاريخية، حيث تتوافر رائحة «الزمكان» (الزمان والمكان) هنا، ثم ألوذ بالكسل والاسترخاء واستجداء الحياة بأن تستمر.
* هل أصبح الاغتراب الإعلامي للسعوديين جزءاً من الماضي، وهل ساعد مناخ الحرية المحدود في المملكة في إعادتهم للبلاد؟
- نعم تقدمنا كثيراً، لكن الطريق أمامنا طويل طويل. كما أريد أن أشير إلى نقطة. لم يكن الحضور الإعلامي العربي في أوروبا، بدءاً من منتصف السبعينات وحتى الآن، حضوراً سببه شم رائحة الحرية أو ممارستها. كان صراعاً بين حكومات، وبعض صراع الأجهزة الأمنية. انتقل العرب بسبب ازدهار النفط، وسرعة التنقل وقصر مدة الطيران إلى أوروبا، فهجموا عليها بأهلهم وإبلهم وخيولهم وملاهييهم، فكان لا بد لهم من صحافة تنتقل معهم ليس إلا!
* ما هي المكاسب التي حققها مهاجرو الإعلام السعودي، والخسائر من جهة أخرى؟ وهل أسهمت غربة الإعلاميين السعوديين في إضافة قيمة لإعلام البلد؟ ثم ماذا عن الحرية بمعناها الواضح.. أين هي؟
- أما المكاسب فكثيرة، تراها في الكثيرين الذين مارسوا احتكاكاً حقيقياً، سواء مع الغرب، أم مع الناطقين بالعربية، حيث يكوّنون هناك شيئاً مختلفاً. أعتقد أن دور الشركة السعودية للأبحاث والتسويق ودار «الحياة» من الأدوار المهمة والرئيسة، وكذلك «إم بي سي» في لندن. بقية التجارب كانت محاولات من دون بنية مؤسسية. لا خسائر إطلاقاً، بل إضافات كبيرة غيرت الوجه الإعلامي للسعودية والسعوديين. قد أكون متطرفاً في هذا القول، لكنني أنطلق من قاعدة أن التدريب والاحتكاك عنصرا نجاح لأي مشروع.
* البعض يعتقد أن السعودية غير مسموعة في الخارج على رغم كل الاستثمارات المالية في قطاع الإعلام بالقياس إلى دول مثل إيران؟
- كان صوتنا عالياً في المرحلة التي كان فيها التعامل مع الإعلام لا يمر بموظفين. كان الطريق إلى صانع القرار لا يمر بحجاب. ثم اختلف الوضع. هذا عامل. والعامل الثاني أن إيران وتابعيها أقدر من الإعلام السعودي في الدفاع عن أنفسهم، إذ خذلتنا الصحوة التي أثمرت القاعدة ثم داعش. الأمر مرتبط بالسياسي، لا الموظف.
* ثمة مصطلح يدور في تويتر بطبعته السعودية هو * «الصهاينة العرب»، ويُقصد به طيفاً من الإعلاميين، لعلك تُعنى به أحياناً، كيف تنظر إلى هذه الصفة الاتهامية؟
- أعتقد أن هذه اللغة مهترئة ومستدعاة من الماضي، من الزمن الثوري الأغبر، الذي يمثله جمال عبدالناصر وصدام حسين، وهو مصطلح الهدف منه إلغاء الخصم ودغدغة غرائز العوام. أفكاري السياسية معروفة، نطقاً وكتابة، وأنا فخور بأي اتهامات من هذا النوع.
* تمتلك علاقات مميزة لدى الطيف السياسي السعودي، ولعلك لا تغرد بعيداً عن سربها، ولكن «إيلاف» محجوبة برسم النظام؟
- ولائي لبلدي وملوكها الذين عاصرتهم وللملكية السعودية لا يحتاج إلى تأصيل، أما الحجب فلست معنياً به، ولا يشكل لي علامة، الصحافي لا ينتظر إشارة من الرقيب حتى يعبر. تعودت على الكروت الحمراء منذ المرحلة المتوسطة، لا جديد عندي.
* جرت إشاعات بأنك ربما تتسلم حقيبة الإعلام، وحسمت الإشاعات بصعود الدكتور عادل الطريفي، هل كانت الإشاعات دخاناً منبعثاً من بعض نار الحقيقة؟
- الإشاعات إشاعات. اخترت طريق الصحافة منذ صباي، وهو طريق لم أحد عنه. الواقع أن وظائف عدة عُرضت عليَّ منذ بداية التسعينات، وكنت أردد أن هؤلاء لا يدركون نعيم الحريّة والفوضى الخلاقة التي يعيشها الصحافي.
* كرسي حقيبة التعليم متحرك وساخن باستمرار، أين المشكلة بالتحديد في رأيك؟
- المشكلات لا تهطل جزافاً، بل لها علاقة بالجذر قبل التدوير. إذا قرأت، أو تابعت، الإعلام المتقدم، لرأيت أن التعليم يشكل هماً أساسياً، وهو حال قلقة تشغل الجميع وتستدعي معالجتهم. التعليم في الوطن العربي يقع في ذيل الاهتمامات بعد العراكات حول الصغائر.
* ماذا عن تجربة المواجهة الإعلامية بين المحافظين والليبراليين في السعودية؟ لمن الكفة اليوم، لاسيما أن التشدد يسجل تصاعداً، وكثير من مراهقي السعودية ينخرطون فيه؟ هل كانت محاولات التفكيك الإعلامي والليبرالي للانغلاق غير منتجة، صدامية أكثر منها علاجية؟
- الكفة لمن يتحكم بوسائل الإنتاج التكنولوجي. الكفة للخارج الذي غزانا لـ«غوغل» وأخواتها. لم أعد متمسكا بتلك الليبرالية المتوارثة التي صدقناها، لأنها أصولية ببدلة «سموكنغ»، كما رفضت منذ البواكير الماضي بكل مشتقاته. نحن ما زلنا على أعتاب طفرة معرفية نرى بوادرها الآن. سيختفي عالمنا، وسيتموضع عالم جديد يقوده الشباب، حتى أولئك الذين انقادوا إلى فكر أو ممارسة الجهاد والإرهاب والغيبوبة، سيكونون أول المهرولين إلى هذا الفضاء المستقبلي.
* هل هناك بالفعل «سعودية جديدة»، البعض يعتقد أن العهود السابقة كانت تتمتع بنفسٍ منفتح، وأنكم كصحافيين وليبراليين عشتم أفضل فتراتكم، وأن ذلك النفس انتهى، ما حقيقة هذا الاعتقاد؟
- السعودية تتجدد باستمرار، وبلا توقف. منذ عهد عبدالعزيز وحتى عهد سلمان لم تتخل المملكة عن مفهوم أرنولد توينبي «التحدي والاستجابة». الملك عبدالعزيز هو الليبرالي الأول، لأن الليبرالية ليست كما يصورها أعداؤها كفراً بالملة والدين. إنها ممارسة فن الواقع والتحكم بمسار الرياح. كان غازي القصيبي يقول لنا ما خلاصته إن عبدالعزيز كان بمقدوره أن يصبح الإمام يحيى أو السلطان سعيد بن تيمور، مغلقاً أبواب بلاده ونوافذها أمام رياح التغيير، لكنه اختار الانفتاح والتعليم ومحاكاة التقدم. تلك وحدها علامة فارقة. السعودية تُمارس الليبرالية. لم يتوقف أحد عن مشاهدة المحطات الفضائية، التعامل مع البنوك، لعب كرة القدم، التعلم بالخارج، الحضور المكثف للحفلات الغنائية. هذه ليبرالية على رغم تحريمها.
* أعلن عن تشكيل لوبي سعودي في واشنطن، ما مدى جدوى هذه الخطوة؟ هل الخطوة متأخرة في ظل الوجود الأميركي الباهت في المنطقة؟
- كيف يكون الوجود الأميركي باهتاً والجميع يصرخ الموت لأميركا! ثم كيف يكون باهتاً بينما بوتين ينقل معركته ضد الديموقراطية، إضافة إلى مشكلاته داخل روسيا، واحتلال جزء من أوكرانيا وضم القرم، إلى منطقة أميركا. أما بالنسبة لتشكيل اللوبي السعودي فأهلاً به، لكنه لن ينجح من دون تقديم دلائل على إصلاح حقيقي في الداخل. كل معاركنا خاسرة ما لم نبن جبهتنا الداخلية.
* الرياض تعيش حراكاً سياسياً غير مسبوق هذه الأيام، هل هذا مؤشر إلى الزمن السعودي في المنطقة؟ وهل هو قابل للاستمرار، أم هو نتيجة موقتة لغياب عواصم عربية؟
- لا بديل عن الزمن السعودي إلا القفز في الهواء والسباحة في العتمة. أستغرب حين يقال «الزمن السعودي»، هل غابت السعودية عن الحركة والتحريك منذ استعادة الرياض في عام 1919، قل لي عن حدث منذ ذلك التاريخ لم يكن للسعودية فيه أنف أو إصبع أو يد.
* سنسألك عن دول وصفاتها الطافحة على سلوكها، ونحتاج إجابات مباشرة ونافذة:
** قطر الطامحة؟
- وما العيب في ذلك الطموح مشروع.
** مصر «العيّانة»؟
إنها أم الدنيا، حتى ولو كانت في العناية الفائقة.
** تركيا بين الديموقراطية والأيديولوجيا؟
- راضٍ عن أنموذجها على رغم سكسونيتي.
** أميركا العرجاء؟
- نحن الأعرجون بالمعروف.
* تحمل موقفاً متخففاً تجاه الإخوان المسلمين، على رغم تصنيفها سعودياً كجماعة إرهابية، ثم إنك لا تحصل على القدر نفسه من الهجوم والاستعداء الذي يحصل عليه آخرون يشبهونك في الموقف كما جمال خاشقجي مثلاً؟
- تعلمت أن أكون مخلصاً لدولتي بكل ما استطعت، لكنني أختلف مع حكومتها بالفروع وليس الأصول. أما موقفي من «الإخوان المسلمين» فهو موقف الليبرالي المخلص لهذا الاتجاه، إذ لا يمكن أن تكون ليبرالياً وتحرم تياراً، أو فئة، من ممارسة الحق السياسي والمدني في صياغة الوجود والتعبير، أنا أعارض الليبراليين من الداخل. زميلي الأستاذ الصديق جمال خاشقجي يعلنها صراحة أنه متعاطف مع الإخوان المسلمين، وكوّن من نفسه أحد المتحدثين الرسميين عنهم. أذكر، إذا لم تخنِ الذاكرة، أن الزميل العزيز كان يعمل مع صحيفة «الشرق الأوسط» إبان رئاستي لها، ثم غادرنا احتجاجاً على موقفنا من الحركات الأصولية. بالنسبة لي أرفض أية صيغة طائفية تطرح نفسها في معترك الحكم والسياسة، ولكنني أفوض أمرها لصناديق الاقتراع والعملية الديموقراطية.
* البعض يتهم الخليج بأنه يقود ثورة مضادة للانتفاضات العربية خشية صعود الإسلاميين، وأنت المحظي في مواقع القرار، ما حجم واقعية هذا الاتهام؟
- لا أستسيغ نظام المحظيات. أنا أعامل كصديق للقيادات في الخليج، ولا أتمتع بأية ميزة عدا علاقات الاحترام والتواريخ المشتركة. أما قيادة الخليج لما يوصف بـ«الثورات المضادة» فليست دقيقة وليست جامعة مانعة. في ليبيا وسورية، وربما تونس، وقفت دول الخليج مع مطالب الشعوب والانعتاق من ذل المارقين أعداء الحياة. ذهبت الطائرات الإماراتية والقطرية إلى ليبيا لتضرب عصابة معمر القذافي، وأقدمت الطائرات نفسها، إلى جانب السعودية، على الفعل نفسه في سورية، وهي تقوم بهذه المهمة في اليمن دفاعاً عن الديموقراطية، وحرباً ضد علي عبدالله صالح وأنصاره. الذي حدث هو أن دول الخليج كانت تتعامل مع البلدان بطرق مختلفة وفق مصالحها، ووفق الظروف، وليس صحيحاً أن لها موقفاً واحداً إزاء تلك الأحداث.
* تصف نفسك أحياناً بأنك «الليبرالي السلفي»، كيف نفكك هذا الاشتباك الاصطلاحي في شخصيتك؟
- لا أرى تضارباً أن تتعايش مع السلفية ومع الليبرالية كما أزعم. في التراث الإسلامي كان الكثير من المسلمين منقسمين بين المذاهب والاعتقادات، فتجد الحنبلي الأشعري، والحنبلي المتعاطف مع أهل البيت، والشافعي الصوفي، والحنفي المعتزلي، بمعنى أن الثنائية موجودة وذات أمثلة عدة في التجارب الغربية. السلفية التي أعرفها وورثتها من والدي، تفصل الدين عملياً عن الدولة، بصرف النظر عن الجدل البلاغي، فهي تفوض الإمام إدارة مقدرات الأمة بالتشاور معها، وهذا أمر مخالف للحركات الأصولية المعاصرة.
* هل ما زلت تركب طائرات النأي عن الزواج وقد فاتك قطاره، هذا وصف يعود لك في مقابلة مع «بي بي سي»؟
- قضية الزواج قضية شخصية. أكثر الذين يهاجمونني بهذا الخصوص لم يقرأوا سيّر بعض الأئمة، مثل ابن تيمية، والطبري، وعبدالفتاح أبوغدة، بل إن الأخير وهو من زعماء الإخوان المسلمين وضع كتاباً عن العزاب من علماء الدين. مؤسف أن تاريخنا لا يُكتب كما هو.
* تتمنى أن تموت كما عشت صحافياً، هل سيحدث هذا قبل أن يكتشف العلم ما يلغي حقيقة الموت؟
- للأسف، تلك الكلمة الطائرة التي قلتها في لحظة انفعال وقع إخراجها من سياقها وحُرِفت من المتشددين.
حقيقة الموت لا ينكرها أحد، أما حلم تمديد الحياة فهو قائم منذ الفراعنة، والعلم بكل معامله منصرف إلى العمل على تمديد الحياة. فعلاً، أريد أن أعيش كثيراً، ليس فقط لأعمل، بل كي أستمتع بهذا المحيط الهادر من المعرفة المقبلة علينا باستمرار.
التعليقات