مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي في صحراء النقب

يبدي الفيلسوف الاسرائيلي افنير كوهين استغرابه من عدم اهتمام الإسرائيليين بمشروع تل أبيب النووي:quot;قائلا ان لا أحد في اسرائيل ، على ما يبدو ، يتساءل عن حاجة بلدهم للقنبلة النووية أو التكتم الشديد الذي تُحاط به.

في عام 1986 كشف مهندس سابق في مفاعل ديمونة النووي الاسرائيلي لصحيفة ذي صندي تايمز كل ما يعرفه عن برنامج اسرائيل النووي التسلحي السري. وفجر ما كشفه المهندس موردخاي فعنونو فضيحة ترددت اصداؤها في انحاء العالم وقدر خبراء ان لدى اسرائيل في ترسانتها العسكرية اكثر من 100 قنبلة ذرية.

وكان الافتراض الشائع على نطاق واسع منذ سنوات ان اسرائيل قوة نووية ولكن ما قدمه فعنونو من معلومات مشفوعة بالصور وتفاصيل انتاج مواد نووية مثل التريتيوم والبلوتونيوم ، مهدت الطريق لانطلاق مناظرة دولية حامية.

ولاحظت صحيفة نيويورك تايمز ان هذه المناظرة دارت في كل مكان باستثناء اسرائيل. وان وسائل الاعلام الاسرائيلية لم تبق جانبا من قصة فعنونو إلا وغطته تغطية مستفيضة ، بما في ذلك اعتناقه المسيحية واستخدام عميلة من عملاء الموساد اسمها السري سندي لإغوائه والإيقاع به. ولكن وسائل الاعلام الاسرائيلية لم تقترب ذات يوم من دلالات القضية على المستوى السياسي والأمني.

إزاء هذا الصمت كتب فيلسوف اسرائيلي شاب اسمه افنير كوهين مقالا في مطبوع علمي يبدي استغرابه قائلا ان لا أحد في اسرائيل ، على ما يبدو ، يتساءل عن حاجة بلدهم للقنبلة النووية أو التكتم الشديد الذي تُحاط به.

ولا يبدو ان تغيرا يُذكر طرأ على هذا الموقف بعد ربع قرن على رفع الغطاء عن برنامج اسرائيل التسلحي النووي. إذ ما زالت اسرائيل ترفض الحديث عن البرنامج وما زال كوهين على استغرابه وتعجبه من صمت الاسرائيليين عموما. ولكن القضية الرئيسية التي يثيرها كوهين في كتاب نشره حديثا عن سر اسرائيل الذي يعرفه الجميع تتمثل في تأكيده ان الكثير تغيَّر وعلى سياسة اسرائيل بشأن اسرارها النووية ان تتغير هي الأخرى.

امضى كوهين العقدين الأخيرين من حياته يعمل باحثا في مؤسسات علمية اميركية بينها معهد ماسيشوسيتس للتكنولوجيا وجامعة ماريلاند والآن معهد مونتيري للدراسات الدولية. ولكنه يبقى راصدا لماحا للمجتمع الاسرائيلي الذي خرج من رحمه. وهو الآن خبير بالتاريخ السري المثير لسياسة اسرائيل النووية.

كان كتاب كوهين الصادر عام 1998 عن quot;اسرائيل والقنبلةquot; موضع اعجاب النقاد ونال ثناء واسعا لفضحه تاريخ البرنامج التسلحي النووي الاسرائيلي بوضوح ودقة لافتين. ويتوسع كتابه الجديد بعنوان quot;اسوأ الأسرار كتماناquot; The Worst-Kept Secret في اماطة اللثام عن هذا التاريخ بالتحليل العميق والموقف الثابت. ويكتب ايثان بونر في مراجعته للكتاب ان كوهين بخلاف غالبية منتقدي سياسة اسرائيل النووية يؤيد قرارها انتاج القنبلة ولكنه يرى ان رفضها الاعتراف بهذه الترسانة أو تشجيع النقاش حولها في الداخل ، أصبح له مردود عكسي الآن.

مرادف سياسة اسرائيل النووية كلمة عبرية تفيد معنى الابهام والغموض والتعتيم. ورغم تهاوي اسرار كانت تُحفظ بكتمان شديد في اسرائيل مثل اسماء رؤساء اجهزتها الاستخباراتية فان سياستها حين يتعلق الأمر بترسانتها النووية ما زالت سياسة تتسم بالجمود والتحجر. وما زال مكتب الرقيب العسكري يستعيض عن عبارة quot;الأسلحة النوويةquot; في المواد الخبرية بعبارة quot;الخيار النوويquot; أو quot;القدرة النوويةquot; ، ويشترط انهاء كل ذكر لترسانة اسرائيل النووية في الصحف بكلمات ثلاث هي quot;حسب مصادر خارجيةquot;. ويقول كوهين ان الحكومة الاسرائيلية لم تتفوه بكلمة واحدة عن الموضوع منذ عام 1960 عندما تحدث رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون عن منشأة ديمونة بوصفها مفاعل أبحاث للأغراض السلمية.

كان وصف بن غوريون للمفاعل بالسلمي اكذوبة. فالهدف كان انتاج قنبلة نووية من البداية. وتكلل هذا العمل الذي بدأ في منتصف الخمسينات بالنجاح مع اندلاع حرب 1967 العربية الاسرائيلية. ومنذ ذلك اليوم مارست اسرائيل رقصة غريبة تتعهد فيها بألا تكون البادئة بإدخال اسلحة نووية في منطقة الشرق الأوسط دون ان تنفي الاعتقاد السائد بأنها تمتلك مثل هذه الأسلحة نظرا لما يعود عليها مثل هذا الاعتقاد من منافع. ولم يُعرف عن اسرائيل اجراء تجارب نووية ولا هي وقعت على معاهدة حظر الانتشار النووي لتكون بذلك القوة النووية الوحيدة غير المعترف بها في العالم. وباستثناء اليوم الذي فكرت فيه غولدا مائير في استخدام اسلحة نووية ثم عدلت عن الفكرة عندما شعرت اسرائيل بخطر اجتياحها في الهجوم العربي المباغت في حرب 1973 فان الخيار النووي لم يكن له دور كبير في تفكير اسرائيل الاستراتيجي ، بحسب بونر في مراجعته لكتاب كوهين.

ولكن غالبية الاسرائيليين يعتقدون ان منشأة ديمونة قامت بدور كبير في تفكير اعداء اسرائيل. ويذهب الاعتقاد الرائج بين الاسرائيليين ان ترسانة اسرائيل النووية هي التي اقنعت الرئيس المصري انور السادات بزيارة القدس في عام 1977 وتوقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية.

كوهين يسبر غور الشخصية الاسرائيلية في تحليله سياسة الإبهام النووي ومساجلته. وهو يذهب الى ان القنبلة النووية تمثل عند اليهود حلقة الوصل بين المحرقة النازية والانبعاث القومي بإقامة دولة اسرائيل. وترى اسرائيل في الاسلحة النووية رادعا يضمن ان ما حدث في المحرقة لن يتكرر ابدا.

يعتبر كوهين ان انتاج القنبلة النووية قرار حكيم وسنوات التعتيم الأولى سنوات ناجحة. ولكنه يقول ان الوقت قد حان لانتهاج سياسة جديدة. وان مستوى السرية والكتمان الحالي خيانة للقيم الديمقراطية. وفي عالم يواجه دعوى ايران بالأغراض السلمية لبرنامجها النووي فان صدق اسرائيل بشأن برنامجها النووي ينبغي ألا يكون موضع تساؤل.

يريد كوهين اعتماد قدر من المحاسبة في نظام لا يمارسها. وهو يلاحظ ان ما يسميه quot;الكهنوت النوويquot; في اسرائيل ليس مسؤولا أمام أحد غير نفسه. وان القضاء يكون مقيد اليدين حين يتعلق الأمر بالقضايا النووية لأنه لا يستطيع الاعتراف بترسانة اسرائيل النووية. ويتهم كوهين آلية صنع القرار والرقابة في اسرائيل بالتقصير ، كما أظهر العديد من التحقيقات. وهذا الوضع يجعل رفع القناع بتأني عن البرنامج النووي مطلبا ملحا.