لا ينجب العالم دولة جديدة كل يوم، ويرى مراقبون أن جنوب السودان لن ينال إستقلاله بعد استفتاء 9 كانون الثاني/يناير بسلام.


أيا يكن الثمن لاستقلال جنوب السودان فان محارباً قديماً في الجيش الشعبي لتحرير السودان مثل فكتور لادو الذي خط الشيب رأسه ويستعين بعكازين في مشيه، يتطلع إلى نشيد وطني وعلم جديد يخفق فوق هذه الرقعة المعذبة من جنوب شرق افريقيا.

ما يصبو اليه لادو هو السلام، وأن يريح رأسه بلا أفكار سوداء عما يتحرك في الظلام. تغير الكثير منذ خمسينات القرن الماضي عندما جاء والده الطبيب إلى بلدة لوري روكوي لمعالجة المصابين بالبرص.

كان لادو صبيا، يصيد السمك في بحيرة روتن، ويسرح مع قطعان الماعز في الحقول، ويرى المصابين بالبرص يفقدون أصابع أيديهم وأقدامهم بسبب المرض. وكان المرضى ينزوون في الأطراف ويتهامسون فيما بينهم بوجوه ملثمة.

كانت عاصمة الجنوب جوبا رقعة من الطرق الترابية بلا متاجر ومخازن وعمارات مكتبية وصحون لاقطة للمحطات الفضائية، كما هي اليوم. وعلى امتداد أجيال كانت الحرب وحديث الحرب هما لغة التفاهم بين الشمال المسلم والجنوب ذي الأغلبية المسيحية والارواحية. وحدثت أمور مأساوية أخرى. فان والد لادو قُتل في مشاجرة بين مخمورين، ومات بطعنة حربة على يد شقيقه نفسه. كان هذا في عام 1966.

شب لادو على الطوق وأصبح جاسوساً. اندس في جهاز أمن الدولة لإيصال المعلومات الى مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير السودان عن تحركات الجيش الشرطة. وتطوع للعمل في الصليب الأحمر لكنه قرر لاحقا ان الوقت قد حان للقتال. فانضم الى حركة التمرد في قريته وذات يوم في عام 1997 وقع مع رجاله في كمين نصبته القوات الحكومية السودانية.

ويتذكر لادو تلك الأيام قائلا في مقابلة مع صحيفة لوس انجيليس تايمز أن هدير المدافع اخترق الأجواء وإطلاق النار استمر بلا توقف. quot;وتمكنا من صد الهجوم ثم تجمعنا لشن هجوم معاكس. واستمرت هذه الحال سبعة ايام ثم وطأت قدمي لغما ارضيا داخل الأحراش. لم يلتقطه جهاز الكشف عن الألغام الذي كنتُ احمله. كان على شكل بَصَلة. وأمضيتُ خمسة أشهر في المستشفىquot;.

يتوقف لادو عن الحديث. ابنه مكي ذو الأعوام التسعة كان يتكئ على شجرة يستمع الى حديث والده. وكان الصبي سمع الحكاية من قبل، حكاية معركة خاضها أب في النضال من أجل الحرية.

وهناك قصص أخرى أيضاً، تروي كيف لجأ متمردون جياع الى أكل التماسيح وكيف كانت أكوام من التراب البرتقالي تنشأ في أغرب الأماكن، تنبثق قبرا بعد آخر وكأن الأرض لم تعد تتسع لأكثر من مليوني شخص قُتلوا بين 1983 و2005، بحسب صحيفة لوس انجيليس تايمز.

قبور، منها الجديد ومنها القديم، تزدحم بها القرية. ورجلان يجلسان بجانب احد هذه القبور لتصليح اطار دراجة هوائية. لادو يراقبهما بعينين حمراوين. كلماته لا تخرج بعجالة بل تنساب مختلطة بالاصوات المتناهية على الطريق، مع خطوات الأطفال وطقطقة أظلاف الماعز وقهقهات النساء وضربات المناجل في العشب وصوت المذياع في السوق وازيز طائرة بعيدة.

ويقول لادو ان السوق لم تكن موجودة حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل قبل خمس سنوات. وأُنشئت السوق لبيع السلع للجنود المتمركزين في ثكنة تقع في نهاية الطريق. كما لم تكن في هذه الأرض اكواخ كثيرة بل كانت حقولا في الغالب ولكن لم يبق من الزراعة إلا القليل. ومعظم العمال هم من النساء اللواتي يقطعن العشب ويبيعنه لتسقيف الأكواخ. ويمارس الرجال صيد الأسماك للحصول على الطعام.

الطريق الترابي الرئيسي مزدحم تعلوه سحب الغبار الذي يلتصق بالأسنان ويتغلغل في الشعر. يسرع تلاميذ المدرسة الجديدة عائدين الى بيوتهم بقمصانهم الزرقاء وياقاتها الصفراء. الطفل مكي معهم ووالده لادو سعيد بذلك رغم ان المدرسة بلا كتب وعلى جنود الجيش الشعبي لتحرير السودان ان يبحثوا عن الطباشير لتقديمه الى مدير المدرسة وهو محارب قديم في حركة التمرد يتفقد صفوفا غالبية تلاميذها اطفال فقدوا آباءهم.

كثيرون ماتوا على هذه الأرض، قتلتهم الطبيعة، قتلهم الجار، وقتلهم المصير الغامض. وهم يموتون الآن من حول لادو بسبب الملاريا والتيفوئيد. المستشفى الموجود عبر الطريق ليس فيه إلا اربعة أسِّرة ذات أفرشة ملطخة فيما أكياس المغذي تتدلى من اعواد بجانبها. ليس في المستشفى كهرباء أو ثلاجة ويتسلم ثلاثة صناديق من الكلوكوز شهريا تنفد بعد نحو اسبوع. كما يعاني المستشفى من نقص الاسبرين والحقن.
يقول لادو ان السياسيين يأتون، يقدمون الوعود ثم يرحلون.

من المتوقع ان يصوت جنوب السودان بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال في استفتاء 9 كانون الثاني/ يناير. ورغم ان للجنوب حكومته وجيشه من الآن فان المتمردين ورجال القبائل لا يصلحون دائما للعمل في جهاز الخدمة المدنية.

ولكن المستقبل قد يصنعه هؤلاء المقاتلون السابقون الذين يرتدون بدلات مستوردة ويمرون في سيارات ومواكب عبر شوالات معبأة بالحبوب والدقيق، واحيانا بالأسلحة المخفية بين السرغوم، مشحونة من اوغندا وتنزانيا.

يسمع لادو باستمرار أن أموال النفط ستتكفل بعلاج المرضى أو إعادة إعمار كل ما خُرب في هذه الأرض التي ستصبح دولة عما قريب. ولكن المال لا يقل ندرة عن التماسيح في هذه البقاع. ويقول لادو إن الانتعاش قادم ولكن بعد مرور وقت لا يعرف أحد أمده.