في السعودية ليس أعلى اليوم من الحديث عن الليبرالية والليبراليين، بعد أن أوقد الناقد الشهير الدكتور عبدالله الغذامي ناره واصطلت بها أوراق الصحف السعودية وثارت بها منتدياتهم الإلكترونية.
الرياض: وفي حالة مثل هذه تعتبر المرة الأولى التي يثير فيها ناقد أو مفكر أو باحث غير إسلامي الأسئلة حول الليبرالية السعودية وعمقها الثقافي وتمددها المجتمعي، لقد قال الغذامي إنها ليبرالية موشومة في أطروحته التي كانت سبباً للجدل قبل أيام في جامعة الملك سعود.
وتنادت أطياف الفكر السعودي حتى قال بعضهم عليكم بالغذامي فقد صبأ!
فيما صفق له خصوم الأمس واحتفوا به في حالة نادرة جداً تذكّر بأيام المفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي الذي تنقل من الركن القصي للإسلاميين إلى الركن الآخر المواجه، مع فارق التجربة وبيئتها.
ولم يحظ كاتب أو مثقف بكم كبير من الردود والأخذ والرد في الأيام الأخيرة أكثر من الغذامي، ولكنه حتى الساعة لم يرد بمقال أو أطروحة أخرى عن الموضوع، فطلبته إيلاف وتجاوب بأريحية.
عندما حاورت الغذامي كنت أستحضر مشهداً حضرته قبل سنوات في معرض الرياض للكتاب، وحينها كان الإسلاميون احتلوا المقاعد الأمامية المقابلة لمنصة العرض وكعادتهم quot;الحركيةquot; حاولوا كثيراً تعطيل الندوات التي كانوا لا يرتاحون لها بسبب أن مسيريها ومحاضريها في تلك الليلة ليسوا من التيار نفسه، وحينها قام رجل ملتحٍ وأثنى على الغذامي وقال بصوت جهوري quot;إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وأنا أشهد أن الغذامي محافظ على صلاة الفجر في جماعةquot;.
وكانت تلك اللحظة توضح بجلاء كيف بدأ التعاطي مع الغذامي من قبل خصومه quot;السابقينquot; في التراجع الحذر، وتلاها الانحسار، حتى حان موعد التصفيق بعد الضربة القوية التي وجهها الغذامي للكائن quot;السائلquot; الذي يسمي نفسه بالليبرالي في السعودية على حد وصفه.
بدأت مع الغذامي بسؤال مباشر وهو المعروف بسعة مصطلحاته وبحر اصطلاحاته، قلت له يا دكتور:
كيف رأيت ردة الفعل أولاً على أطروحتك، لقد قلت إنهم موشومون وهاجمتهم من حيث لم يحتسبوا فكيف ترى ردة فعلهم؟
فأجاب quot; من الصعب أن أتحدث عن ردة الفعل إلا على المستوى الايجابي، لأني تعودت على ردود الفعل منذ 30 سنة، وأتذكر جيداً ما حصل من ردود فعل بعد كتابي (الخطيئة والتكفير) ثم على كتبي كلها، أنا متعود عليها من ناحية، ومن ناحية أخرى أصدقك القول لو غابت ردة الفعل سأشعر بالصدمةquot;.
ولكن يا دكتور عبدالله لماذا كانت أطروحتك؟
quot; هذه القضايا يفترض أن تكون موضوع نقاش على مستوى المجتمع، ولأن سؤال الليبرالية يجب أن يطرح ثقافيا واجتماعيا وعلى مستوى المحاورة والمداورة ونتحمل كل السلبيات التي تقع بالضرورة على جانب أي نقاشquot;
ويضيف quot;تظل القضية بالنسبة لي من كتابات ومقالات هي جزء من عينة الخطاب الثقافي الذي أدرسه، إنهعمل رديف يساعدني على القراءة وهو وثائق لقراءة الواقع الثقافيquot;.
الموشومة: المعيب الذي يلاحق الشيء
ولكن الليبراليين أخذوا عليك تشخيصك للطرح والإسقاط على شخوص و سلوكيات، بينما هم يقدمون الليبرالية على أنها وعاء يحتوي كل شيء وليس لها نموذج مثالي ويتفقون على ذلك بعكس الإسلاميين الذين كل يرى الإسلام من زاويته؟
quot;في قراءة الخطاب لا يجوز للناقد أو الباحث أن يفترض تعريفا معينا ويجبر الناس على أن يتعمموا بهذا التعريف، وإذا افترضت أن عندك فئة في السعودية تسمي نفسها بالليبراليين فالشرط الأساسي أن تأخذ تعريفهم لأنفسهم وليس ما يدعيه عليهم خصومهم، ولا يجوز أن تفترض تعريفا من خارج الحدود ثم تجبرهم على أن يتطابقوا مع هذا التعريف، وإذا سنتكلم عن الليبراليين السعوديين فأولا يجب أن نقول من هم ؟ ثانياً ما هي ليبراليتهم وكيف يقدمونها وكيف يقدمون أنفسهم؟
وهذا ما جعلني أقول الليبرالية الموشومة وقصدت بالموشومة (المعيب الذي يلاحق الشيء) لأنها مرتبطة بالإمبريالية، و لأن هؤلاء الذين يتسمون بالليبرالية في السعودية لا يقدمون أنفسهم كذلك وليس لديهم شخوص فيقولون هؤلاء هم القيادات، وليس لديهم مرجعية ومقولاتوكتب، فكل ما لديهم مجاميع كتاب على الصحف يحاولون أن ينسبوا إلى أنفسهم كل الإنجازات التي تمت في المجتمع مثل دعوة قيادة المرأة للسيارة أو إصلاح المناهج أو للإصلاح بشكل عام، وجاؤوا ليزعموا أنهم هم أصحاب هذه الدعوات رغم أن هذه الدعوات كانت قبلهم وهي إلى الآن قائمة وعلى أيد كثيرة ومن قاموا بها دفعوا أثمانا باهظة على مدى 50 عاماً.
فلا يصح أن تأتي فئة وتدعي ذلك وهي لم تحضر على المشهد الثقافي إلا في السنوات الأخيرة وتدعي أنها هي من صنع الإنجاز و أنها هي التي تولت هذه المطالب وتقودهاquot;.
لا أتكلم عن الفلاحين
ما هي منجزات غيرهم، ولو أخذنا مثالك بقيادة المرأة للسيارة فهو ما زال مشروعا فاشلا لم يحقق النجاح؟
المنجز عادة ليس بتحقيقه أو لا، الطبيب النفسي ليست مهمته جعل الناس سعداء، والتصدي للمشاريع وعدم تحقيق الأهداف ليس فشلا، فالحياة هكذا، ولا يعني أننا مثلاً فشلنا في فلسطين ونترك القضية، بل الجميع يحاول حتى يتحقق الهدف في النهايةquot;.
ولماذا يستخدمون quot;التقيةquot; الثقافية إذاً؟ وكيف تنظر للوضع تحليلياً؟
أحللها أنني لست أمام تيار ليبرالي ولا كيان ليبراليا باستثناء الشبكة الليبرالية على الانترنت فهي الوحيدة المعلنة والمشاركون فيها يكتبون تحت دعوى الليبرالية، أما خارجها فستجد البعثرة، وقد تجد أحدهم يقول إنه ليبرالي ثم ينفي، وإذا نفيتها عنه قال لا أنا ليبرالي، فلا تعلم تتعامل مع من وعلى أي أساس، وهذه هي الليبرالية التي لا ليبراليين فيها!، تبعات المصطلح عندما يمسي نفسه ليبرالياً ليست سهلة، عمر الليبرالية 3 قرون وإذا قالها أحدهم تجري مواجهته مثل من يصف نفسه بأنه فيلسوف ولا بد أن يكون لديه رصيد معرفيquot;.
وهل في أوروبا أو أميركا لابد أن يكون كل الناس لديهم رصيد معرفي، هل يجب على المزارع الأميركي في بعض الولايات مثلاً ألا يطالب بإلغاء حكم الإعدام؟
أنا لا أتكلم عن المزارعين والفلاحين، فالليبرالية مصطلح من صنع الفلاسفة و يجري استخدامه بين النخبة وهو من صنع الفلاسفة وانسحب على الأحزاب ومشاريعها، هو نظام نخبquot;.
أين الشروط الثلاثة ؟!
هل هم طارئون ؟ هل أضعفت أحداث 11 أيلول في نيويورك وتفجيرات الرياض موقف الإسلاميين وبالتالي وجدوا مساحة التحرك والبروز، وليس لأنهم أصحاب مشروع؟
هم حالة طارئة، و يصدق كلامك عن بروزهم لو كانوا بارزين فعلا، والمشكلة عندي أنهم غير قابلين لأن نميز بين مصطلحين الصلب والسائل عبر تاريخ معرفي، فالإسلاميون مثلاً تعرف أدبياتهم ومشروعهم وخلفيتهم وقادتهم وهكذا وأما الليبراليون فهم السائل، إنهم ماء لا تكاد تمسك به.
وفعلا لا أجد ذلك الليبرالي تتوفر فيه الشروط الثلاثة أولا يقول عن نفسه إنه ليبرالي، والثانية أن يقول عنه الآخرون كذلك ويقبلوا دعواهوالثالثة أن يتصف بصفات الليبراليين على المستوى العالمي ولا أقول المستوى المحلي لأنهم لم يقدموا صفة أو تعريفاً لليبرالية للبلد طالما ليس هناك قياس محلي، والقياس العالمي ينبني على الليبرالية الفلسفية أولاً ثم الاقتصادية ثم السياسية، ونحن هنا ليس لدينا إلا الليبرالية الاقتصادية منذ إنشاء البنوك ولكننا في حالتنا أمام ليبرالية صحافية فقط وهي التي من الممكن أن تكون موجودةquot;.
هل ترى أن الليبراليين ساهموا في تكريس وصف quot;المنافقينquot; الذي ينعتهم به خصومهم الإسلاميون على اعتبار أنهم لا يعلنون ليبراليتهم في وقت يدافعون عنها؟
بالنسبة لي فأنا مشروط علي أن أكون باحثا ويقتضي ذلك أن أسمي الناس بما يسمون به أنفسهم، وفي حالة الليبراليين أنا أمام دعوى وليست تسمية، وهي حالة موجودة وغير موجودة والحالتان صحيحتان وهنا الإشكال والسبب يعود إلى أن ليس هناك مرجعية معرفية تخصهم فيستندون إليها، وهذا سبب ترددهم.
فعندما يقول أحدهم إني إسلامي فإنك تعرف مرجعيته وأدبياته وكذلك الحداثي، ولكن لما يقول ليبرالي في السعودية لا تعرف مرجعيته ولا قيادات ولا خطاب تحيل إليه بنقده أو مساندته وكذلك ما يزيد الأمر تعقيداً أن هذهالعينة لاتعطيك ولاتزوّدك بمنتج لا على مستوى الكتابة أو الممارسة، والسبب أنها موجودة وغير موجودة في آن واحد ويحدث ذلك تاريخيا عندما تكون في (اللامرحلة واللازمن واللاتاريخ) وحينها يسير الناس دون أن يصطلحوا لمسارهمquot;.
الصحافيون الغربيون الليبراليون
ذكرت بأنك تعرضت لهجوم سابق من الإسلاميين إثر (الخطيئة والتكفير) و (حكاية الحداثة) من المنابر والخطب، والآن أنت أمام أعمدة الصحف وكتابها الليبراليين فما هو الفرق بين الخطابين؟
quot;جوهريا ليس هناك فرق وكلها تتراوح بين موقف يكون متجاوباً معي وموقف رافض جداً، و أيضا يصاحب هذا إطلاق صفات وتصنيفات لمحاولة إحراج المتحدث وعادة هذه هي الطريقة المثلى لسحب مصداقية صاحب الرأي، وبالتالي يتم عزله عن التأثير الاجتماعي، إن الذي يقف ضدك هو يخاف من تأثيرك الاجتماعي ولذلك يطلق عليك ويحبسك في هذه الأوصافquot;.
وماذا لو أردت يوماً أن تؤرخ هذه المرحلة بصفتك باحثا فبماذا ستسميهم إن كنت لا تراهم ليبراليين؟
المشكلة يا عزيزي أنه ليس لديهم خطاب ليبرالي يحدد المفاهيم التي نستطيع التعامل معها وثانياً ما يدعونه من انجازات لهم هي ليست لهم وإنما لغيرهم، و في كل ردود الفعل التي جاءت بعد أطروحتي لم يذكر أحد منهم أنه ليبرالي ! لم يقدموا أي شيء يمكن أن نستند إليه في التحليل ولم يقدموا برهانا على انجازات أو أسماء ولم يجدوا شيئاً، إنهم في كل مقال يبدأه أحدهم يقول أنا لست ليبراليا ولكن!quot;
لو كتبت عن النقد في هذه المرحلة بتناول ثقافي فلا يجوز لي تسميتهم لأنهم هم أساساً لم يسموا أنفسهم، و سأحيلك إلى فترة الستينات وحينها كان الصحافيون الغربيون عندما يزورون السعودية يكتبون تقارير فيشيرون للمتدينين بالإسلاميين وللرسميين والحكوميين باسمهم كذلك ولكنهم يجدون أناساً مختلفين في جلسات خاصة ليسوا هنا ولا هنا وبالتالي يطلق عليهم الليبراليون، ومن هنا جاء على ألسنة الغربيين!
لم يكن مستخدما لدينا قوميون ولا شيوعيون إلخ ، وبالتالي لا يجد لهم تصنيفاً، لأن هذه طريقة التفكير الغربي وتتداول في الغرب، ولكن لا أحد يدعي الوصف من هنا، وفي السنوات العشر الأخير هناك فئات بدأت تقبل ولكنهم لا يسمون أنفسهم وهم يريدونها ولا يريدونها في آن، والمحصلة أن الأمر ليس خيارهم ولا ابتكارهم وإنما اختير لهم.
هناك مجموعة كبيرة تسعى بجهود صحيحة في الصحافة هم الذين يسمون أنفسهم إصلاحيين ويدفعون ثمن مشروعهم ويسمون علمهم إصلاحيا وهم الذين موضع درس وعموماً هو شيء جيد لباحث مثلي أن يجد مثل هذه الحالة الموجود وغير الموجود !quot;
ولكن ربما إنهم يعون حجم quot;المصطلح quot;وما يترتب تبعه على كل المستويات من أحزاب وحراك سياسي ولذلك يبدأون بالإصلاح من القاعدة quot;المجتمعquot; كما فعل غيرهم مثل الإخوان المسلمين، وهذه نظرية شهيرة ولأنهم يريدون التحرك في المساحة الممنوحة لهم باعتبار الليبرالية هي في الأساس كلٌ لا يتجزأ؟
هناك إرث عالمي ومعلوماتي وبالتالي لا يمكن أن نقول إنهم يبدأون لا في اقتصاد ولا سياسة ولا نقد، فثقافة هذه الزمن لا تسمح لأحد بالقول إننا في بداية الطريق!
ولاحظ أن الإصلاح مصطلح والليبرالية مصطلح، ولا يمكن الخلط بين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني مثلاً، في الوطن العربي تراث قرن كامل وهناك تمييز واضح، وليس فهمالفرق بين الإصلاح والليبرالية صعباquot;.
الكل يراهن على السلطة، ولا أعرف الأغلبية الصامتة
وماذا تسمي هذا الحراك بعمومه من الإسلاميين ومن يوصفون بالليبراليين والقوميين مؤخراً، هل هو تغير كامن ساهمت فيه الأحداث الطارئة؟
لا، لا أستطيع الحكم بتغير كامن، ولكن الانفتاح الإعلامي وما أسميه الشاشات الثلاث ساهم في ذلك (التلفزيون، الكومبيوتر، الجوال)، وثورة المعلومات وإضعاف الرقيب، كلها ساهمت في هذه التغيرات، فما يمنع لي في جدة حتماً سأكتبه من لندن وهكذاquot;.
الإسلاميون يحبونك الآن، وصفقوا لك كثيراً، هل هادنتهم أم أن عدو عدوي صديقي؟ وكيف ترى الإسلاميين الآن، هل خسروا الصوت العالي ولكنهم بقوا على الأرض؟
لا أستطيع الحكم على حالة عامة من خلال دائرة ضيقة، أنا لا أعرف إسلاميين إلا أقاربي وأصدقائي وبالتالي ليس لدي الخلفية الكاملة لأحكم، ولكني أستطيع القول إنهم طيف متنوع فيهم الفضائيون غير الانترنتيين غير المنبريين وغير الرسميين وهكذا.
أما من جهة عدو عدوي صديقي فهذه لاتهم الباحث ولا أنظر لها كباحث، المفترض من الناقد أن لا يلتفت للجمهور أبداً، يجب أن يكون مستقلاً تماماً بغض النظر عمن يؤيده اليوم أو غداً من هنا أو هناكquot;.
لماذا أسميت التغيرات في صفوف الإسلاميين طيفا وتنوعا ولم تقل فرقة وضعفا؟
لأني إن قلت فرقة فسيكون حكماً بالسلب وأنا لا أملك الحكم كباحث مجرد، وعموماً لدي كتاب سيصدر قريباً عن الإسلاميين وانفتاحهم الإعلامي وثقافة الصورةquot;.
أين تقع الأغلبية الصامتة بين الفرقاء فالكل يراهن عليها؟
هم لا يراهنون على أغلبية صامته وأنا لا أعرف هذه الأغلبية، كلاهما يراهن على السلطة، لقد دار الحوار بينهم علناً على قناة دليل الفضائية عن هذا الأمر.
التعليقات