quot;بالأمس كنت طيارا أجوب سماء البلاد شرقا وغربا، واليوم أقود سيارة أجرة قديمة وأتجول بهاquot;، بتلك الكلمات اختصر طيار سابق برتبة عقيد الاسى والحزن اللذين يطاردانه بعد ان دمرت القوة الجوية العراقية. ووسط الاهمال الحكومي لشريحة الطيارين السابقين رفض هؤلاء السفر الى الخارج رغم العروض المغرية.
بعقوبة: أرغمت الظروف المعيشية الصعبة الكثير من الطيارين العراقيين السابقين بعد الاحتلال الأميركي للبلاد ، على العمل في مهن بسيطة لتوفير لقمة العيش لأسرهم ، فمنهم من عمل سائق باص أو بائعا في متجر صغير وسط سوق شعبي.
لكن هؤلاء الطيارين في حنين دائم للطيران كونهم يعشقون سماء بلاد الرافدين، ويأملون أن يعود الصقر العراقي، (الاسم الشعبي للطيار) إلى السماء قويا ليحمي أجواء البلاد من الأعداء .
يقول الدليمي ، وهو طيار سابق برتبة عقيد، طلب ذكر لقبه فقط لأسباب أمنية quot; عندما يفقد الصقر لذة الطيران ويرغم على المكوث على الأرض فانه يعيش ما تبقى من حياته عليلا .. تتطلع عيناه نحو السماء دوما لأنها عشقه الأبديquot;.
الدليمي ، الذي يسكن في أحد أحياء مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى شرقي البلاد، أشار بيده وهو يجلس في غرفة صغيرة متواضعة إلى الكثير من الصور المعلقة على الجدران، وجميعها تتحدث عن مسيرة حياته في مهنة الطيران الحربي منذ بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى سقوط النظام السابق في عام 2003 ، وقال quot;إن الطيران مهنة رائعة لايمكن وصفها، أحببتها كثيرا واحترفت قيادة عدة أنواع من الطائرات الحربية وشاركت في الكثير من المعارك وحصدت الأوسمة والأنواطquot;.
وكان سلاح الجو العراقي يضم مئات الطائرات الحربية الحديثة ومن أنواع مختلفة خلال العقود الثلاثة الماضية، تعرضت أغلبها للتدمير في حربي الخليج الأولى والثانية حتى انتهى الأمر بالطائرات الحربية التي أنفقت ملايين الدولارات لشرائها إلى ركام وسط الأحراش والبساتين، فيما بدأت بوادر لبناء سلاح جو عراقي حديث بدعم أميركي بداية عام 2004 لكنه لايزال في خطواته الأولى.
وسيطرت نبرة تحمل الألم والحسرة على الدليمي وهو يتحدث عما جرى للقوة الجوية العراقية وكيف دمرت بشكل كبير بعد احتلال العراق من قبل القوات الأميركية ليرغم مئات الطياريين العراقيين على المكوث في منازلهم ليفقدوا متعة الطيران.
وقال الدليمي ان quot;لعنة تاريخنا في عالم الطيران الحربي بدأت تطاردنا بعد سقوط النظام السابق وبدء مسلسل الاغتيالات المنظمة للعديد من الضباط المعروفين في مدينة بعقوبة بين عامي 2004-2005 لذا أرغمت وحفاظا على أرواح أسرتي على أن أهجر منطقتي وأرحل عنها للحفاظ على حياتيquot;.
وتابع quot;اتخذت قرار الرحيل إلى منطقة أخرى حتى أكون بعيدا عن أعين المتربصين بي، وأفلت من مخططاتهم الاجرامية لكن الأمر ازداد سوءا لأن الراتب كان ضئيلا جدا لا أستطيع معه توفير القدر الكافي من الحياة الكريمة لأسرتي، لذا أرغمت على اتخاذ قرار آخر وصعب جدا وهو أن أعمل سائق سيارة أجرة لكي أوفر القدر الكافي من المال حتى لا أدع أسرتي بحاجة لشيءquot;.
وقال والألم يعصر قلبه quot; بالأمس كنت طيارا أجوب سماء البلاد شرقا وغربا، واليوم أقود سيارة أجرة قديمة وأتجول بها في مدينة بعقوبة .. انها بحق سخرية القدر، لكننا نحمد الله على كل شي في نهاية المطافquot;.
ووصف الدليمي ما حدث من تدمير لسلاح الجو العراقي عام 2003بأنه مخطط متعمد يهدف لابقاء العراق ضعيفا دوما، فبدون طيران قوي لايمكنك أن تحمي البلاد، مبينا أن الخطوات التي تحاول الحكومة العراقية تنفيذها لاعادة بناء القوة الجوية بطيئة وضعيفة جدا.
بدوره قال صلاح الدفاعي، طيار عراقي سابق برتبة مقدم، كان واقفا وسط محل تجاري في سوق بعقوبة، وهو ينظر إلى أطفال صغار يلعبون بطائرات ورقية ملونة ترتفع في السماء في متنزه قريب من متجره، quot;قضيت كثيرا من الوقت في السماء حتى تخيلت أنني لن أفارقها أبدا ، لكني أرغمت على فراق مهنتي التي أحببتها كثيرا لينقلب بي الحال من طيار محترف إلى بائع في متجرquot;.
ووصف الرفاعي ما حدث للطيارين العراقيين بالأمر المجحف بكل معنى الكلمة بسبب وجود ما أسماها بأجندات خارجية أرادت أن تقضي على جيل كامل من الطياريين الموهوبين الذين كانوا الدرع الواقي لسماء البلاد وأنفقت الدولة العراقية ملايين الدولارات لتأهيلهم.
وتابع quot;لكن ما حدث بعد الاحتلال فاجعة بكل المقاييس، فقد قتل الطيارون وفق مخططات منظمة وأرغم الكثير منهم على الهرب خارج البلاد للخلاص من الموت المحقق، أما من تبقى فقد اختفى عن الانظار وعمل في مهن مختلفة من سائق باص إلى صاحب متجر إلى أعمال ومهن اخرى لايمكن أن تقارن بأي حال من الأحوال بمهنة الطيرانquot;.
وأكد الدفاعي أن الطيارين العراقيين لم يكن ولاءهم لنظام أو طائفة أو قومية، بل للعراق فقط، والساسة العراقيون يدركون الأمر جيدا لكنهم قبلوا أن يبعدوا أصحاب الخبرة والمهنية عن العمل لتبقى القوة الجوية العراقية ضعيفة لايمكنها مواجهة أية أخطار، وهذا ما يريده الاحتلال الأميركي .
وأشار إلى أن هناك اهمالا حكوميا لشريحة الطيارين السابقين، مبينا أن بعضهم تلقى عروضا للعمل خارج البلاد لكنهم رفضوا ذلك وفضلوا البقاء في بلادهم لأنهم فقدوا متعة الطيران في سماء العراق ولايرغبون أن يفقدوا لذة العيش على أرضه.
يذكر أن المئات من الطياريين وكبار ضباط وقادة الجيش العراقي السابق اغتيلوا على أيدي جماعات مسلحة مجهولة خلال السنوات السبع الماضية وخاصة في عامي 2003 و 2004.
التعليقات