|
مع تشييع العلامة السيد فضل اللهأمسخلى لبنان من المراجع الكبار باعتبار ان المبدأ الشيعي الخاص بـ quot;التقليدquot; في أمور العبادات والمعاملات يوجب على المكلف ان يختار شخصية يرى فيها الكفاءة الدينية للإفتاء في أمور الدين والدنيا. ويطرح غيابهعلامات استفهام على واقع المرجعية الدينية الشيعية والتحديات المستقبلية التي تواجهها، بعدما استطاع فضل الله أن يؤسس لواقع جديد في هذه المرجعية طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية، خصوصاً وأن المرجعية شأن لا يورث.
أجمع اللبنانيون كما لم يفعلوا من قبل على الإشادة بصفات المرجع الشيعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله التنويرية والإنفتاحية في بيانات نعي ومواقف تعزية، وإن لم يخل بعضها من طابع اللياقات لاختلاف أصحابها الكلي فكريا مع العلامة الراحل، وتقاطرت الشخصيات الرسمية والوفود والفاعليات من كل حدب وصوب على quot;مستشفى بهمنquot; في ضاحية بيروت الجنوبية حيث توفي السيد فضل الله لتقديم التعازي إلى عائلته والقيمين على مؤسسته والمشاركة في تشييعه إلى حيث يدفن في صحن مسجد الإمامين الحسنين، وذلك وسط مظاهر حداد شعبي واسع رافقه حداد رسمي، فأقفلت المؤسسات الرسمية وجزء واسع من القطاعات الخاصة في عموم لبنان.
وكان أبرز من حضروا إلى المستشفى للتعزية الأمين العام لـ quot;حزب اللهquot; السيد حسن نصرالله الذي كسر نظامه الأمني الصارم كي يلقي النظرة الأخيرة على جثمان العلامة الراحل، وهذه من المرات النادرة جدا ان يخرج نصرالله من مقره السري ويجازف بحياته وأمنه ما يؤشر إلى مكانة المرجع فضل الله العالية لدى السيد نصرالله الذي كان أحد مريديه في بدايات نشاطه السياسي- التثقيفي في محلة النبعة في ضاحية بيروت الشرقية قبل اندلاع حرب لبنان عام 1975.
وبغياب المرجع فضل الله عن ٧٥ عاما بعد صراع طويل مع المرض يخلو لبنان من المراجع الكبار باعتبار ان المبدأ الشيعي الخاص بـ quot;التقليدquot; في أمور العبادات والمعاملات يوجب على المكلف ان يختار شخصية يرى فيها الكفاءة الدينية للإفتاء في أمور الدين والدنيا. وقد كان فضل الله في هذا الإطار المرجعية اللبنانية شبه الوحيدة، بينما ينقسم الباقون بين تقليد السيد علي السيستاني في العراق ومرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي. ويطرح غياب المرجع فضل الله علامات استفهام على واقع المرجعية الدينية الشيعية والتحديات المستقبلية التي تواجهها، بعدما استطاع فضل الله أن يؤسس لواقع جديد في هذه المرجعية طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية. علما أن ثمة عددا كبيرا من المراجع في الطائفة الشيعية ممن لا يحظون بنسبة مقلدين كبيرين، فلا يعدون مرجعيات جامعة.
وكان فضل الله ترجم توجهه الاسلامي العالمي من خلال طرح الاسلام كفكر عام غير حزبي وغير طائفي وغير مذهبي، وسعى الى ان يكون عامل جذب متنوعا لكل من أراد التزام الاسلام بلا عقد وحواجز. كما من رواد الحوار الاسلامي المسيحي، والحوار المذهبي السني الشيعي، ولعل الاستجابة التي لاقتها دعوته هذه من عدد كبير من علماء الدين المسيحيين والغربيين عموما جعلت اسمه من الأسماء الاسلامية الكبيرة التي يحترم فكرها وآراؤها لصدقيتها ولمضمونها الديني الانساني الذي يحترم الانسان بمعزل عن لونه وقوميته وانتمائه الحضاري.
وعرف عنه تشجيعه الشديد للتحصيل العلمي واعترافه بالانجازات العلمية، إلى درجة إفتائه بجواز تحديد الشهر القمري بالوسائل العلمية واعترافه بشرعية الاستنساخ البشري وحقوق للمرأة تحفظ عنها تاريخيا مراجع آخرون. أما في السياسة فوقف بكل قوة طوال حياته ولا سيما بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في الإستيلاء على السلطة في وجه ما كان يسميه quot;الاستكبار ومقولاتهquot; وخططه، ودعا الى تأسيس مراكز أبحاث علمية دولية محايدة تضع حدودا للمصطلحات والتعريفات مثل quot;الارهابquot; وquot;محور الشرquot;.
وتمتع فضل الله بدائرة واسعة من الأتباع والمريدين في لبنان ودول الخليج وبلاد المهجر في أفريقيا والولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية وأستراليا، ما وفر له إمكانات مالية ودعائية ضخمة، ساعدت على الترويج لمرجعيته الدينية للشيعة العرب، فأنشأ عشرات المدارس والمستشفيات والمؤسسات الإنسانية والإجتماعية التابعة لجمعية المبرات الإسلامية والتي يشرف عليها وتهتم بآلاف الأيتام والفقراء والمرضى.
وهو كان من أول الذين أعلنوا تواصلهم مع الثورة الاسلامية في ايران. وطوال الفترة الممتدة من عام ١٩٨٠ حتى مطلع عقد التسعينات صار السيد فضل الله المدافع العنيد عنها وعن مواقف قائدها الإمام الراحل الخميني، وكان يعد المرشد الروحي لquot;حزب اللهquot;، كما كان الخطيب الابرز في كل مهرجاناته واحتفالاته، والناطق باسمه في المقابلات الاعلامية ولا سيما مع الصحافة الاجنبية. لكن الوضع اختلف لاحقا والسبل تفرقت بين السيد فضل الله من جهة، وطهران وquot;حزب اللهquot; من جهة اخرى. إذ تدهورت علاقة السيد بإيران بعد عام ١٩٩٠إثر وفاة الامام الخميني والتغييرات التي أفضت الى الاطاحة بالتيار القريب من فضل الله في قيادة quot;حزب اللهquot;.
ووصل الخلاف الى ذروته أواخر التسعينات مع الحملات التي شنت ضده من كل حدب وصوب من شخصيات شيعية كثيرة قريبة وبعيدة عن سلطة طهران، ووصل الأمر إلى توزيع كتيبات ومنشورات تهاجمه في أحياء ضاحية بيروت الجنوبية على قاعدة رفض مبدأ quot; التحديثquot; الذي كان يدعو اليه فيquot; محاولة لتخليص الفقه من التعقيدات التي أفرزها تأثر الممارسة الاستنباطية والتنظير الأصولي بالفلسفة التجريدية، ما أدى الى تشويش الفهم العرفي في تعامله مع النص في دلالته ومعطياتهquot; على ما كان المرجع الراحل يوضح لسائليه.
ولم يكن الافتراق بين الحزب والسيد فضل الله حبياً، اذ نشأت على هامشه مساجلات فقهية وفكرية أبرزها قضيةquot;ضلع الزهراءquot; التي أتت على شكل كتب صدرت ضد السيد فضل الله لتشكك بعلمه ومرجعيته، ولا سيما بعد محاضرة له رفض فيها مقولة تعتبر من معتقدات الشيعة، وهي ان السيدة الزهراء تعرضت لهجوم على منزلها من بعض الصحابة أدى الى كسر أحد أضلاعها. ولم تنطو صفحة هذا الخلاف الا قبل أعوام قليلة، على اساس ان يمضي السيد فضل الله قدماً في مرجعيته المستقلة والمؤسسات التابعة لها، على ان يتابع في المقابل دفاعه عن quot;المقاومة الاسلاميةquot; وعن الجمهورية الإسلامية في ايران.
وتوافرت للسيد فضل الله الكثير من المقومات والمعطيات التي حفزته على إعلان مرجعيته عام 2003 على نطاق كل العالم الاسلامي. وسيدير المؤسسات التي أنشأها من بعده نجله السيد علي محمد حسين فضل الله ونجله الآخر السيد جعفر على ما أوضح قريبون من العائلة لـ quot;إيلافquot;، علما أن للمرجع أبناء آخرين لم يظهروا مرة إلى الإعلام. كما أن شقيقه السيد محمد باقر فضل الله يتولى المسائل الإدارية في quot;المبرات quot; بمعاونة فريق من أعضاء مجلس الأمناء. أما المرجعية فشأن آخر ولا تورث. وسيكون على المريدين والمسلمين واللبنانيين جميعا انتظار سنوات طويلة ربما قبل أن تبرز من بينهم شخصية على غرار المرجع السيد فضل الله، فأمثالهم لا يجود الزمن بهم كثيرا.
التعليقات