لا تزال الحالة الأفغانيّة تستحوذ على الاهتمام خاصة بعد الكشف عن مصاعب الإدارة الأميركية وحلفائها.

واشنطن: انقضى ما يقرب من تسع سنوات على الحرب الأميركية على أفغانستان (2001) ولا تزال الحالة الأفغانية تستحوذ على اهتمام متزايد، لاسيما مع ما كشفت عنه الآونة الأخيرة من مصاعب تواجه الإدارة الأميركية، وحلفائها في الحرب على حركة طالبان عبرت عنها انتقادات قائد القوات الحليفة في أفغانستان الجنرال الأميركي- ستانلي ماك كريستال لإدارة أوباما، واستراتيجيتها في الحرب، والتي على إثرها تم إقالته. يضاف إلى ذلك أن مكاسب حركة طالبان تتعاظم وتستعيد كثيرًا من نفوذها بين الحين والآخر بالحصول على مواطئ قدم جديدة في مناطق أفغانية عدة، وفي المقابل تعاني الحكومة الأفغانية بزعامة حميد كرزاي من وضع شديد الضعف تعاظمت وطأته باستشراء الفساد في جنباتها.

في هذا الصدد، يتزايد الجدل داخل الأوساط الأكاديمية الأميركية بشأن أفضل السبل والحلول لتسوية الأزمة الأفغانية التي طال أمدها. وقد حاولت دراسة كل من ستيفن بيدل وفوتينى كريستيا والكسندر زيير، ونشرت بدورية الشئون الخارجية عدد يوليو/ أغسطس 2010 تحت عنوان quot;تحديد النجاح في أفغانستان . ما الذي يمكن أن تقبله الولايات المتحدة ؟ الإجابة عنه بتقديم رؤية للدولة الأفغانية تجمع بين التعامل مع مقتضيات الواقع الأفغاني، والخبرة التاريخية التي تشير بدرجة أو بأخرى إلى الأهمية المحورية التي تحتلها فكرة اللامركزية في الحكم.

الولايات المتحدة والمعضلة الأفغانية

دخلت الولايات المتحدة حربها على أفغانستان انطلاقًا من أهداف معلنة تمثلت في جعل أفغانستان ملاذًا آمنًا، لا تستخدمه العناصر الإرهابية لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها، بالإضافة إلى عدم استخدام العناصر المتمردة للأراضي الأفغانية في إفشاء عدم الاستقرار بين الدول المجاورة خاصة باكستان، ولكن بمرور الوقت تبين أن تحقيق هذه الأهداف موضع شك ومحفوف بعديد من التحديات. فنموذج الدولة المنشودة، لم يتحقق حيث لا تزال الأوضاع الأمنية تعاني من انعدام الاستقرار الواضح فضلاً عن عدم الاستقرار حول شكل الدولة الأفغانية في سياق فشل الحملة العسكرية الأميركية وحلف الناتو على حركة طالبان، وبالتوازي مع تواري الحديث تدريجيًّا عن المفاوضات مع حركة طالبان.

وفي هذا السياق طُرحت فكرة الدولة المركزية كأحد الحلول الملائمة للحالة الأفغانية فمنذ عام 2001 حاولت حكومة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي بدعم دولي واضح تبني نمط حكم ديمقراطي مركزي؛ فسعى الدستور الأفغاني عام 2004 إلى التأكيد عليه وبموجب هذا النمط من الحكم تركزت كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في أيدي السلطة الوطنية المركزية. وأصبح الرئيس كرزاي هو المسئول عن تعيين كافة المسئولين الرئيسيين بالجهاز التنفيذي وقوات الأمن. ومن هذا المنطلق اعتبرت أفغانستان واحدة من أكثر الدول مركزية على مستوى العالم.

أسهمت عدد من العوامل في الدفع نحو المركزية أبرزها وجود عديد من العناصر السياسية البارزة المحيطة بالرئيس كرزاي تدعم فكرة المركزية، إذ إن تجربة طالبان والحرب الأهلية التي شهدتها أفغانستان إبان عقد التسعينيات من القرن المنصرم لا تزال ماثلة في أذهان عديدٍ، الأمر الذي جعل البعض يعتقد أن السبيل الأوحد لمواجهة هذه التخوفات تبني الاقتراب المركزي في الحكم بقطع النظر عن مدى ملائمته لمقتضيات الواقع الأفغاني.

اللامركزية والاستقرار

تُشير الدراسة إلى صعوبة تطبيق مركزية الحكم في الحالة الأفغانية ومن ثم تعد اللامركزية النمط الأفضل، والأكثر صلاحية للوضع الأفغاني لأنها تأخذ في الاعتبار مقتضيات الواقع، وفي هذا الصدد تُطرح فكرة الديمقراطية اللامركزية كأحد الحلول استنادًا إلى عدد من العوامل:

أولاً: تتضمن الديمقراطية اللامركزية نقل عديدٍ من السلطات والمسئوليات من المركز إلى الأطراف بما في ذلك سلطات متعلقة بإقرار الميزانيات الخاصة بكل مستوى محلى وانتخاب المسئولين المحليين فضلاً عن جباية الموارد وإنفاقها على الاحتياجات المحلية، ومن ثم فقد يتناسب هذا الأمر مع تركيبة الدولة الأفغانية متعددة الإثنيات والطوائف.

ثانيًا: تتوافق اللامركزية مع الخبرة التاريخية لأفغانستان. فعلى مدار سنوات كانت المستويات المحلية على مستوى المحافظات والمقاطعات تحتل مكانة بارزة في شئون الحكم ولا تزال المجتمعات المحلية مصدرًا أساسيًا للهوية والحكم والمساءلة، وتعد الجيركا المحلي دليل على هذه الفكرة. وفى المقابل فقد باءت عديد من محاولات فرض المركزية تاريخيًا بالفشل وأفضت إلى تأزم الأوضاع الأفغانية.

ثالثًا: تجربة بناء الدولة خلال فترة ما بعد الحرب الباردة تشير إلى الأهمية المحورية التي تحتلها الديمقراطية اللامركزية في تسوية أزمات عديد من الدول حيث استخدمت عدد من الدول أنماط من تقاسم السلطة في إطار الديمقراطية اللامركزية كمخرج لأزماتها الداخلية.

رابعًا: تطبيق الديمقراطية اللامركزية يتسق بدرجة أو بأخرى مع المنظومة القيمية الأميركية لاسيما أنها تنطوي على قيم الديمقراطية والشفافية ومشاركة السلطات.

وتواجه الديمقراطية اللامركزية ـ حسب الدراسة ـ ثلاث تحديات رئيسة، أولها: يتمثل في حركة طالبان التي تعارض الديمقراطية، والتحدي الثاني: القدرات الإدارية المحدودة التي تتمتع بها الدولة الأفغانية وندرة البيروقراطية المتخصصة بما يتطلب التوسع في جهود التدريب وتوفير مزيدٍ من الكوادر البشرية.

وتشكل العناصر المستفيدة من الأوضاع القائمة ثالث التحديات، فالفساد المستشري في أجهزة الدولة الأفغانية أوجد وسطاء في السلطة يحققون مصالحهم من وراء هذه الأوضاع ومن ثَمَّ سيقاومون خيار الديمقراطية اللامركزية (وقيمها المتمثلة في الشفافية والانتخابات)؛ لأنها يمكن أن تهدد وضعهم الحالي ومكاسبهم المتحققة.

في هذا السياق توازن الدراسة بين التحديات التي تواجه الديمقراطية اللامركزية والإيجابيات الناتجة عن تطبيقها وتخلص إلى أهمية الديمقراطية اللامركزية وإمكانية الاستناد إليها في الخروج من الأزمة الأفغانية وذلك مع التأكيد على إمكانية تجاوز التحديات السابق الإشارة إليها.

تقدم اللامركزية بهذا النمط التوازن المنشود في مجالات متعددة فهي من ناحية تتوافق مع مقتضيات الواقع الأفغاني، ويمكن من خلالها التعامل مع تمرد حركة طالبان إذ إن منح صلاحيات وسلطات أوسع للمستويات المحلية سيجعل تلك المستويات أكثر حرصًا على المكتسبات التي حصلت عليها، ومن ثم ستخفف من وطأة التمرد الطالباني بل وقد يدفع بعض عناصر الحركة إلى التصالح مع السلطة المركزية والتوقف عن التمرد.

وقد تُستخدم اللامركزية في هذا السياق كأداة لمواجهة الفساد حيث إن إرساء نظام للشفافية والمساءلة تحت مظلة الديمقراطية اللامركزية ومنح المجالس المحلية فرصة أكبر لحرية العمل ورقابة عمل الجهات المحلية سيمثل أحد محاور التعامل مع الفساد. ناهيك عن إمكانية الاستناد إلى هذا الاقتراب في تعزيز قدرات وكفاءة الحكومة الأفغانية بإتاحة الفرصة للموظفين المحليين للتركيز على قضايا محددة وأكثر ارتباطًا بالأوضاع المحلية ومن ثم تتزايد معدلات التخصص لدى البيروقراطية الأفغانية تدريجيًا وصولاً إلى كفاءة أكبر في أداء المهام الحكومية.

تجارب تطبيق اللامركزية

وتعد تجربة برنامج التضامن الوطني التنموي أحد التجارب الناجحة في هذا الشأن. فعلى مدار ما يقرب من ثماني سنوات سعت الحكومة الأفغانية إلى تقديم المنح والدعم للمجالس المحلية المنتخبة ديمقراطيًا لتوجيهها في مشروعات التنمية المحلية وبالرغم من أن البرنامج يدار محليًّا فكافة المؤشرات تشير إلى كفاءته ونجاحه وخاصةً أنه تمكن من الوصول لأكثر من 20 ألف قرية.

وتطرح الدراسة السيادة المختل كاقتراب آخر من اقترابات اللامركزية في الحكم انطلاقًا مما تنطوي عليه السيادة المختلطة من نقل بعض سلطات وصلاحيات المركز إلي الفروع والمستويات المحلية الأخرى (سواء أكانت المحافظات أم المقاطعات) ولكنها في الوقت ذاته تمنح المستويات المحلية حرية اختيار الحكم المناسب حتى ولو كان يخلو من مفاهيم مثل الشفافية والانتخابات وذلك في ضوء الالتزام بعدد من الاشتراطات المفروضة من جانب المركز وهي:

أولاً: عدم استخدام السلطات المحلية لأراضى الدولة بطريقة يمكن أن تمثل تعديًا على السياسة الخارجية للدولة كأن توفر ملاذًا آمنًا للجماعات الإرهابية.

ثانيًا: عدم تعدى السلطات المحلية علي حقوق المحافظات أو المقاطعات المجاورة كالاستيلاء علي موارد تلك المحافظات والسيطرة علي الموارد الطبيعية الخاصة بها.

ثالثًا: منع الموظفين الرسميين من التورط في قضايا فساد كبيرة أو الاتجار في المخدرات أو غيرها من الأمور التي تمثل تعديًا على موارد الدولة.

وفي هذا الصدد تُشير الدراسة إلى الإشكاليات التي تواجه اقتراب السيادة المختلطة فمن ناحية سيكون للمحافظين سلطات واسعة في حدود أقاليمهم، ومن ثم فقد يلجئون إلى تبني سياسات اجتماعية رجعية ـ بحسب الدراسة ـ تنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان بما يعني النكوص من الوعود الأميركية بتحقيق الديمقراطية وضمان حقوق الأقليات والمرأة، ومن ناحية أخرى فالسيادة المختلطة وما ستفضي إليه من توسع في سلطات الحكام المحليين قد تدفع إلى تزايد مؤشرات الفساد والكسب غير المشروع فضلاً عن التحديات التي يمكن أن تواجه الاستقرار الداخلي لاسيما في حال سعي بعض الحكام المحليين إلى التوسع في سلطاتهم بصورة تتعدى أهداف ومصالح الحكومة المركزية.

وبالرغم من هذه الإشكاليات فلا تزال السيادة المختلطة أحد الحلول المطروحة للحالة الأفغانية خاصةً وأنها لا ترتبط بصورة كبيرة بتطوير مؤسسات الدولة فضلاً عن إمكانية إيجاد حوافز تحت مظلتها تجعل عناصر طالبان أكثر تقبلاً للمصالحة مع الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة.

متطلبات النجاح

احتلت فكرة اللامركزية خلال السنوات الأخيرة أهمية محورية سرعان ما تُرجمت في تجارب عديد من الدول سعت لتطبيق اللامركزية بصورها المختلفة، ولا يمكن إغفالها كأحد الحلول المطروحة للخروج من المأزق الأفغاني استنادًا إلى تركيبة المجتمع الأفغاني والتجارب التاريخية التي مر بها.

وبالتوازي مع طرح الدراسة لبعض أنماط اللامركزية فنجاح تطبيقها علي الواقع الأفغاني يرتبط بتحمل الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية مسئولياتهما في هذا الصدد حيث إن نجاح اللامركزية يتطلب حكومة مركزية قوية قادرة على فرض سيطرتها على أقاليم الدولة بما يحقق لها أهداف في مقدمتها تطبيق سياستها الخارجية وإلزام كافة الأقاليم بتلك السياسة وضمان عدم خروجها عليها. فضلاً عن توافر القدرات الأمنية للحكومة المركزية والتي تمكنها من التدخل في حال سعت بعض المستويات المحلية إلى استخدام سلطاتها بالقدر الذي يهدد وحدة أراضى الدولة ككل كأن تدعم وتساند بعض أقاليم الدولة تنظيمات إرهابية وجماعات متمردة وللحكومة المركزية دور رئيس في الرقابة على عمل الأقاليم بما يحول دون استشراء الفساد.

وفي سياق متصل، يتعين على الإدارة الأميركية تقديم الدعم والمساندة لأفغانستان من خلال المساعدات الخارجية سواء أكانت المادية أم التقنية وتعزيز قدرات قوات الأمن الأفغانية فضلاً عن دعم إجراءات مكافحة الفساد ودعم قدرات البيروقراطية وتقديم البرامج التدريبية المناسبة لرفع كفاءة الجهاز الإداري للدولة وكخطوة سابقة على ذلك فإدارة أوباما عليها إدراك أن تطبيق الحكم المركزي في أفغانستان أصبح بعيد المنال كما أن الحلول العسكرية لا يمكن الاقتصار عليها.

ويرجع ذلك إلى أن الحالة الأفغانية حالة شديدة التعقيد والتشابك وبمرور الوقت يبدو أن الخروج من هذا الوضع لن يكون بتطبيق المركزية إذ إن الحلول المطروحة متعددة من ضمنها حدوث انقسام داخلي في الدولة أو التحول نحو الديكتاتورية المركزية. وهى حلول تبدو غير مناسبة ولا تتوافق مع أهداف الإدارة الأميركية ومن ثم تبرز في هذا الشأن اللامركزية كأكثر الحلول موائمة مع الحالة الأفغانية واقعيًا وتاريخيًّا.