أسقطت ثورة الياسمين التونسية التي انتهت بالإطاحة بالرئيس بن علي تلك المقولات التي كانت تتداولها الألسن بهمس، ومفادها أن الجيش موال للنظام وفي خدمته، واليوم باتت العلاقة بين التونسيّ والمؤسسة العسكرية قائمة على الودّ والاحترام، خصوصا بعد أن رفض الجيش إطلاق الرصاص على المحتجّين.


مواطنون تونسيّون يحتفون بعناصر من الجيش

تونس: عند التمثال الشهير للعلامة عبد الرحمان ابن خلدون في شارع الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة تونس، وقبالة الكنيسة تحديدا، تتمركز دبابة تابعة للجيش الوطنيّ، خرجت من ثكناتها قبل سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي بيومين، وما زالت رابضة هناك ومحاطة بالأسلاك الشائكة ويعتليها عدد من الجنود.

وفي الجهة المقابلة، مدرعات أخرى تابعة للجيش تبدو مدجّجة بأسلحة ثقيلة لم يتعوّد التونسيون رؤيتها تجوب الشوارع الرئيسة لمدنهم.

رغم المظهر المهيب للدبابة وقسوة ملامح الجنود المتحفزين من حولها وعلى متنها، يتجمّع العشرات من التونسيين يوميّا بالقرب منها، بعضهم يدردش مع الجنود، ويحيّيهم ويشكرهم على مجهوداتهم في حفظ الأمن، وآخرون يلتقطون الصور مع أهاليهم وأقاربهم بالقرب من مدرعات الجيش ودباباته حفاظا على ذكرى هذه المناسبة التي هزت تاريخ تونس وربما يصعب تكرارها.

حكاية التونسيين مع الجيش الوطنيّ هي حكاية التوجّس والرهبة والاتهامات والإشاعات، التي تحوّلت مع أحداث ثورة الياسمين إلى حكايات الحبّ والاحترام والقبلات والصور والتذكارية والامتنان.

وبات الجيش التونسيّ منذ سقوط نظام زين العابدين يحظى باحترام قطاع واسع من التونسيين خصوصا بعد أن رفضت قياداته وعناصره الالتزام بقرارات الرئيس المخلوع وإطلاق النار على المتظاهرين.

في ساحة quot;المنجي باليquot; المحاذية لمحطة القطار الرئيسة في العاصمة، تتمركز وحدات من الجيش، والى جانبها عدد كبير من المواطنين معظمهم من الشباب قدموا لالتقاط الصور.

اللافت أنّ المواطنين يقدّمون الزهور للجنود ويعلقون بعضها على المدرعات بشكل منظم وجميل فاسحين المجال أمام مشهد غير مألوف يجمع بين اللون الأخضر المميز للجيش وألوان الزهور الجميلة والمختلفة.

تقول رحاب بن هميلة وهي طالبة جامعيّة إنها لم تفكر سابقا في زيارة الجنود أو الحديث إليهم بسبب الرهبة التي تعتريها كلما حدثها البعض عن الجنود أو أعوان الأمن وتضيف:quot; شاهدت أصدقائي وصديقاتي وهم يحمّلون صورا جميلة مع عناصر الجيش على صفحاتهم على فايسبوك، بدا لي الجنود لطفاء ومبتسمين ويحبّون المواطنين ويمزحون معهم وشخصيا لم آلف هذا السلوك من عسكريين في السابقquot;.

زهور تكلّل دبابات الجيش التونسيّ في الشوارع

ورغم إلحاح (إيلاف)، رفض الجنود الحديث الينا، فالتعليمات كانت صارمة بخصوص الحديث إلى وسائل الاعلام، لكن تمكنا في نهاية المطاف من quot;انتزاعquot; اعترافات من بعضهم حول تعب وإجهاد كبيرين و(قلة نوم)، رغم أنّهم يرددون باستمرار أنهم يقومون بالواجب لا أكثر ولا أقلّ، وأنّ ترحيب المواطنين لهم يزيدهم إصرارا على التفاني في حماية المواطنين والأملاك.

نضال رياحي موظف عموميّ كان مصحوبا بولديه لما قدم لالتقاط الصور مع جنود يستقلون ظهر دبابة من طراز روسيّ قديم.

يقول لـ(إيلاف): احترامي للجيش التونسيّ تعزز بعد الإطاحة ببن علي، واخترت أن آتي بأبنائي حتى أعلمهم احترام من قدموا أنفسهم فداء للتونسيين وحموا ثورتهم ورفضوا الاعتداء عليهم، عكس أعوان وزارة الداخلية ممن نكلوا بالشعب والشباب الثائرquot;.

ويختم السيّد نضال قائلا:quot; مشهدان لن أنساهما ما حييت، صور الجنود وهم يرفعون أسلحتهم في وجه قوات مكافحة الشغب لما احتمت بهم مجموعة من الشباب الغاضب، ومشهد الجنديّ الذي وقف إجلالا وأدى التحية العسكرية لما مرّت بالقرب منه جنازة أحد شهداء الثورة، لقد قام بتحية الشهيد رغم أن بن علي حينها لم يسقط بعدُquot;.

وبالفعل، المشاهد التي حدّثنا عنها الموظف نضال، رسخت في أذهان كثيرين خصوصا من مستعملي الانترنت، إذ بثت عدة مواقع وشبكات الكترونيّة صورا للجيش التونسيّ في مدينة الرقاب التي تتبع محافظة سيدي بوزيد مهد ثورة الياسمين، وتظهر مقاطع الفيديو إطلاقا مكثفا للرصاص الحي من قبل أفراد شرطة مكافحة الشغب، وهو ما دفع بعدد من الشباب المحتجّ بعضهم مضرج بالدماء ومختنق بالغاز إلى الاحتماء بعناصر من الجيش التونسي ممن قاموا في خطوة quot;تاريخيةquot; بتصويب أسلحتهم الرشاشة تجاه شرطة مكافحة الشغب وأجبروهم على التراجع.

كما أظهر مقطع فيديو آخر صورا لجنديّ تونسيّ شاب قام إجلالا لجنازة مرت بجانبه لأحد قتلى الاحتجاجات وأدى التحيّة العسكرية للقتيل وموكب الجنازة.

تلك التفاصيل تتضافر مع أخبار ينقلها الإعلام عن إقالة بن علي للجنرال رشيد عمار قائد أركان جيش البرّ بسبب رفضه الامتثال إلى أوامر بن علي المتعلقة بقمع الاحتجاجات وإطلاق الرصاص على المحتجين، وتشير التسريبات إلى أنّ رئيس أركان جيش البر الفريق أول رشيد عمار خيّره بن علي بين إطلاق الرصاص على المتظاهرين أو الإقالة، فاختار الخيار الثاني، ورفض عمار إصدار الأوامر للجيش التونسي باستعمال القوة ضد المتظاهرين، ما جعل الرئيس التونسي يتخذ قراراً عاجلاً بإبعاده، وتعيين الجنرال أحمد شبير في محله، لكن بعد سقوط بن علي استعاد عمار منصبه فورا.

ومنذ أيام قليلة، التحق الجنرال رشيد عمار في أول ظهور إعلاميّ منذ الانتفاضة بالمعتصمين أمام مقرّ الحكومة في القصبة والمطالبين بسقوط حكومة الغنوشي، وتعهد عمار وهو الأعلى رتبة في الجيش التونسي بحماية الثورة من دون الخروج على الدستور، داعياً المتظاهرين الذين اصطدموا مع قوات الشرطة خلال مطالبتهم بإسقاط الحكومة الموقتة برئاسة محمد الغنوشي، إلى إخلاء ساحة الحكومة في العاصمة.

مواطنون يلتقطون صورا تذكاريّة

وقال: إن الجيش هو حامي العباد والبلاد والثورة، لا تضيعوا هذه الثورة المجيدة، أنا صادق وكل القوات المسلحة صادقة لكي تصل بالسفينة إلى شاطئ السلامquot;.

وزادت هذه التصريحات من احترام التونسيين للجيش خصوصا مع تعزّز المخاوف بين كثيرين من quot;تدخّلquot; الجيش في السياسة أو استيلائه على السلطة في حال سقوط حكومة محمد الغنوشيّ الانتقالية وحدوث فراغ سياسيّ ما يمهد السبيل أمام quot;استبداد العسكرquot; كما يرى كثيرون.

يشار إلى أنّ الجيش التونسيّ تعرّض في عهد الرئيس المخلوع إلى عملية quot;تقليم أظافرquot; إذ تقلص عدده وتجهيزه بشكل ملحوظ عمّا كان عليه الحال في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة.

وتقدّر القوات العاملة في الجيش التونسيّ بنحو 35 ألفاً، منهم 23400 مجندين تجنيداً إلزامياً، ويشكو من ضعف التجهيز وقلة المروحيات والطائرات والأسلحة الحديثة.

وقبل الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس بن علي، كان التونسيون خصوصا من الشباب يعزفون عن الخدمة العسكرية التي كانت رديفا للشقاء والقسوة، ما دفع بوزارة الدفاع إلى تنظيم حملات تجنيد إجباريّ عديدة تعرف محليّا باسم quot;الرافلquot;.

وينص القانون التونسيّ المتعلق بالتجنيد على أنه quot;يتعين على كل شاب ما بين سن العشرين والخامسة والثلاثين أداء الخدمة العسكرية لمدة عام كامل في إحدى ثكنات الجيش ما لم يكن يتابع تعليمه أو كان متزوجا ويكفل طفلا أو كان مريضا، ويصبح كل من أدّى الخدمة الوطنية احتياطيا في الجيش حتى سن الخامسة والثلاثينquot;.

وفي آذار / مارس الماضي صادق البرلمان على مشروع القانون الخاص بتعديل وإتمام قانون الخدمة العسكرية للسماح للفتيات بأداء الخدمة العسكرية، لكنه لا يطبّق إلى حدّ اللحظة.

وأقر التعديل الجديد ضرورة أداء الفتيات الواجب العسكري، وذلك حسب ما ينص عليه الفصل 15 من دستور الجمهوريّة، من ضرورة الدفاع عن الوطن من قِبل كل مواطن، سواء كان شابا أو شابة.