كشف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية التفاصيل الغامضة في تراجع القاضي ريتشارد غولدستون عن تقريره المتعلق بحرب غزة.


لندن: نشرت صحيفة quot;نيويورك تايمز الأميركيةquot; تحليلا معمقا للأسباب التي دفعت قاضي التحقيق في حرب غزة ريتشارد غولدستون إلى التراجع عن النتائج التي توصل إليها في تقريره. وفي السطور التالية نستعرض أبرز النقاط التي وردت في ذلك التحليل.
تقول الصحيفة إن القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون قام قبل عشرين عاما بدور محوري في تحقيق المصالحة في بلاده جنوب أفريقيا بين حكومة الأقلية البيضاء وحركة المقاومة المتنامية المعبرة عن آمال وتطلعات أغلبية السكان من السود.

قاد غولدستون لجنة لتقصي الحقائق في أحداث العنف المتزايد ضد البيض، والذي تبين فيما بعد أنه كان رد فعل لممارسات سرية يقوم بها البيض ضد السود.
وبالفعل توصل غولدستون إلى كشف أسباب العنف على الجانبين، مما أكسبه مكانة دولية مرموقة في مجال التحقيقات الحساسة وكشف الجوانب الغامضة في العلاقات بين الجماعات المتناحرة.

وفي عام 2009 حاول غولدستون أن يكرر نفس النجاح ولكن على أرض أخرى قريبة من قلبه وهي إسرائيل. فالرجل يهودي صهيوني، ويعتقد أن المصالحة بين الجماعات تتحقق عندما توجد لدى الطرفين إرادة حقيقية للانصياع لقواعد المجتمع الدولي.
وعلى ذلك فقد قبل تكليف الأمم المتحدة له بقيادة لجنة لتقصي الحقائق في الحرب التي دارت رحاها على أرض غزة بين اسرائيل وحركة حماس، وقال لأصدقائه إن هدفه من قبول المهمة هو المشاركة في صنع السلام في الشرق الأوسط.

وانتهى التحقيق إلى تقرير يحمل اسم غولدستون ويدين طرفي الحرب. وقال التقرير إن كلا من اسرائيل وحركة حماس قد استهدفتا المدنيين أثناء الحرب التي امتدت لثلاثة أسابيع.
ولكن التقرير لم يفشل في تحقيق السلام في الشرق الأوسط فحسب، بل أدى إلى زيادة التشدد في مواقف الأطراف وجلب على كاتبه عاصفة من الانتقادات الحادة، وخاصة من جانب إسرائيل.

ولمحاولة فهم السبب الذي دفع غولدستون إلى التراجع عن ذلك التقرير وسحب اتهاماته لإسرائيل مع التمسك باتهاماته ضد حماس، ينبغي أن ننظر إلى سابق أعماله في جنوب أفريقيا.
كان غولدستون يعتقد أن المصالحة التي توصل إليها في جنوب أفريقيا هي النموذج الذي يتعين أن يتبع في حالة غزة. ولكن بدلا من ذلك فإن ذلك الأسلوب أدى إلى دفع الساسة الإسرائيليين إلى مزيد من التشدد وقدم وقودا جديدا لكل النيران المعادية لإسرائيل ولم يتضمن انتقادا قويا بنفس القدر لحركة حماس.

وفي غمرة شرحه لموقفه الجديد قال غولدستون في مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست quot;لو أني علمت وقتها ما أعلمه الآن، لكان تقرير غولدستون وثيقة مختلفة جد الاختلافquot;.
وقد رفض غولدستون بشدة الكشف عما أصبح يعرفه الآن ولم يكن يعرفه وقت كتابة تقريره. ولكن المقابلات التي أجريت مع كثيرين ممن يعرفونه أشارت إلى طائفة من الأسباب من أهمها العداء الإسرائيلي الذي جلبه التقرير على غولدستون، وما شعر به هو شخصيا من خيبة أمل إزاء ما يرى أنه استمرار من جانب حماس في استهداف المدنيين، وأخيرا اقتناعه بأن إسرائيل ربما تكون قد تصرفت على النحو السليم في بعض أكثر المواقف دموية أثناء الحرب.

وكانت الفترة منذ نشر تقرير غولد ستون وحتى تراجعه عنه عصيبة عليه. فمن ناحية كان يحظى بإشادة عربية واسعة باعتباره اليهودي صاحب أقوى انتقاد دولي لإسرائيل، ومن ناحية أخرى كانت الإدانة تنصب عليه حتى من جانب أقرب أصدقائه في الدوائر اليهودية داخل إسرائيل وخارجها. بل إن ابنتيه اللتين كانتا دوما فخورتين به، هاجرت إحداهما إلى كندا هربا مما جره تقرير أبيها عليها من عزلة داخل إسرائيل حيث كانت تعيش، بينما عجز هو عن حضور مراسم تهويد حفيده من ابنته الثانية التي تعيش في جنوب أفريقيا.
والحقيقة أنه عندما قبل غولدستون التكليف بالتحقيق في ملابسات الحرب في غزة، حذره كثيرون من أصدقائه بأنه يدخل بقدمه في فخ كبير. وأنه لم يحدث أن أمر مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بإجراء مثل هذا التحقيق في الحروب التي وقعت في الشيشان أو سريكلانكا أو رواندا وبوروندي. والخطورة تكمن في استهداف إسرائيل وحدها بمثل هذا التحقيق.

والواقع أن التكليف في صورته الأولى كان يقتصر على الأداء العسكري الإسرائيلي في حرب غزة، ولكن غولدستون نجح في إقناع رئيس مجلس حقوق الإنسان بمد نطاق التكليف بحيث يشمل حركة حماس لاقتناعه بأن كشف دور الجانبين قد يسهم في إقناعهما بتغيير سلوكهما في اتجاه السلام بدرجة أكبر.
ولكن طموحات غولدستون تبددت على صخرة الواقع منذ اليوم الأول لعمل اللجنة التي رأسها. فهو كيهودي كان يأمل أن يستمع له المسؤولون في الحكومة الإسرائيلية، ولو من باب الإحترام لتاريخه السابق كرئيس للجامعة العبرية في القدس ورئيس لمنظمة quot;ورلد أورتquot; الصهيونية المعنية بالتدريب المهني في دول أفريقيا.

ولكن إسرائيل لم تتعاون معه بدعوى أن مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة متحيز ضدها ولصالح الفلسطينيين إلى جانب القول إن صيغة التكليف الصادرة لغولدستون لا تتيح له الدخول إلى إسرائيل لتفقد الخسائر الناجمة عن صواريخ حركة حماس مما يجعل ذلك التكليف قاصرا.
وعندما تفقدت اللجنة قطاع غزة أصيب أفرادها بالصدمة مما شاهدوه.. آلاف المنازل المدمرة ومئات الورش والمصانع الصغيرة التي سويت بالأرض وحتى مبنى البرلمان والمدارس والمساجد والمستشفيات والمخابز. وهناك شواهد على سقوط 1400 قتيل معظمهم من المدنيين إلى جانب أعداد كبيرة من المصابين.

وفي المقابل فإن قتلى إسرائيل في تلك الحرب لم يتجاوز عددهم 13 قتيلا.
ولكن غولدستون حرص أيضا على تسجيل حزنه العميق لعدم تمكنه من زيارة المصابين اليهود من صورايخ حركة حماس التي أطلقت على مستوطنات جنوب إسرائيل على مدى عقود عديدة، وأكد في هذا السياق أنه واثق من أنه كان سيشهد نفس المشاهد المروعة لهؤلاء المصابين لو أن الجيش الإسرائيلي أتاح له الفرصة.

وألمح غولدستون بعد ذلك إلى أن حرمانه من الوصول إلى كثير من المواقع الخاصة بالجيش الإسرائيلي ربما أسهم في خروج التقرير النهائي في حالة تستدعي الكثير من التعديلات.
كما حاول غولدستون إلتماس الإعذار لإسرائيل في بعض أكثر أحداث الحرب دموية. فعند الحديث عن مقتل 29 فلسطينيا من أسرة واحدة وفي بيت واحد دكته المدفعية الإسرائيلية قال غولدستون إن الأرجح أن الحادث وقع نتيجة خطأ في قراءة صور التقطتها طائرات تجسس بدون طيار، وأن تلك الصور أظهرت هؤلاء الرجال وكأنهم يحملون راجمات صواريخ بينما تبين بعد ذلك أنهم كانوا يحملون جذوع أشجار.
وبالرغم من تلك المحاولات فإن تقرير غولدستون ظل مرفوضا بكثير من السخط داخل إسرائيل وخارجها وحتى من جانب من أبدوا ترحيبا به في الدوائر الإسرائيلية، وذلك لا لسبب سوى أنه تضمن في بعض بنوده القول إن إسرائيل قتلت فلسطينيين عن عمد في عدد من وقائع الحرب.

مثل هذه الضغوط لعبت دورها، ولكن غولدستون يحاول أن يعزي تراجعه إلى أسباب أخرى يقول إن من بينها معلومات جديدة تناهت إلى علمه مؤخرا، وكذلك ما يرى أنه تركيز زائد من الأمم المتحدة على إسرائيل مع إحجام المنظمة الدولية عن إدانة الهجمات الصاروخية المتواصلة من جانب حركة حماس على إسرائيل، وأخيرا ما وقع في ذهنه من تشويش حرمه من القدرة على الفصل بين المدنيين والمقاتلين في صفوف حماس، وهو ما يعني تباينا كبيرا في عدد القتلى المعلن من كلا الجانبين.
فإسرائيل تقول إن من بين القتلى من الفلسطينيين عدد لا يقل عن 700 قتيل من المقاتلين المسلحين، وهو ما يخرجهم من دائرة المدنيين، بينما تشير تقديرات حماس وبعض المنظمات الحقوقية الأخرى إلى أن عدد المقاتلين من بين القتلى في غزة لم يزد عن مئة أو مئتي شخص من بين ما يزيد عن ألف وخمسمائة قتيل فلسطيني.
وفي الوقت نفسه حاول غولدستون في مقاله الأخير أن يجد لتقريره معنى بعد أن أصبح غير ذي معنى في نظر الكثيرين. فقال إنه نتيجة لهذا التقرير أصبحت إسرائيل تحرص بدرجة أكبر على حماية المدنيين في عملياتها العسكرية، بما في ذلك فرض قيود أكبر على استخدام ذخائر الفوسفور الأبيض المسببة للحروق.