ما زالت ليبيا بعد القذافي لم تحقق الإستقرار المنشود، بل إن مقاتلي الزنتان ومصراتة يرفضون مغادرة العاصمة ولا يريدون الانصياع لسلطة المجلس العسكري في طرابلس برئاسة الاسلامي عبد الحكيم بلحاج رغم موافقة المجلس الانتقالي على توليه هذه المسؤولية.

عناصر من مقاتلي الزنتان
يحاول سكان طرابلس وكتائبها منذ أشهر إقناع مقاتلي مصراتة والزنتان الذين اقتحموا العاصمة الليبية لإسقاط نظام القذافي بالعودة إلى مدينتيهم ولكنهم ما زالوا مرابطين في طرابلس ويواجهون اتهامات بمضايقة أهلها.
فهم يعتبرون أن العبء الأكبر وقع على كاهلهم في معركة إسقاط القذافي وينظرون بعين الريبة إلى توجيهات المجلس الانتقالي الذي يرون أنه يضم طارئين من بنغازي عينوا أنفسهم بأنفسهم رغم اعتراف حكومات عربية وغربية بالمجلس حكومةً شرعية.
ولا يبدو مقاتلو مصراتة والزنتان في عجلة للانخراط في صفوف الجيش الوطني الليبي بقيادة مغتربين عادوا بعد سنوات في الخارج وحكومة يتعاملون معها بحذر. كما أنهم لا يريدون الانصياع إلى سلطة المجلس العسكري في طرابلس برئاسة الاسلامي عبد الحكيم بلحاج رغم موافقة المجلس الانتقالي على توليه هذه المسؤولية.
وإذ تدرك الكتائب القادمة من خارج العاصمة القوة السياسية التي تنبثق من فوهة بندقيتهم وتنظيمهم المسلح وإذ قررت توظيف هذه القوة في انتزاع نصيب اكبر من السلطة والموارد للمناطق التي تتحدث هذه الكتائب باسمهما فإنها ليست مستعدة للتنازل عن موقع سياسي له مثل هذه الأفضليات. وتجاهلت الكتائب المناطقية موعد رحيلها عن طرابلس الذي مرّ في 20 كانون الأول/ديسمبر الماضي. وعندما تحتك بها جماعات مسلحة مدعومة من المجلس الانتقالي، كما حدث باعتقال بعض أفرادها في ليلة رأس السنة الجديدة، فإنها لا تتردد في استخدام السلاح.
وقد اشتهر وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد بالقول إن الحرية فوضوية في معرض تفسيره الانفلات الأمني الذي شهدته بغداد بعد سقوط صدام حسين. ولكن الفارق أن القوات الأميركية هي التي احتكرت استخدام العنف في العراق وكان رامسفيلد يعقد الأمل بلا أساس كما اتضح لاحقا على ألا تضطر الولايات المتحدة إلى استخدامها لإعادة الاستقرار في عراق ما بعد صدام والإسراع بالرحيل فور تحقيق هذا الهدف.
ولكن ليبيا كانت عملية مختلفة رحّبت بها الولايات المتحدة وحلف شمالي الأطلسي كنموذج جديد للتدخل بلا عواقب شديدة الوطأة حيث يمكن للقوى الغربية والدول العربية الحليفة أن تمدّ يد العون للمنتفضين من اجل إطاحة حكام مستبدين بزج الحد الأدنى من الموارد البشرية والمادية.

وفي حين أن اشهرا من الضربات الجوية وبضع مئات من القوات الخاصة القطرية على الأرض كانت كافية لتدمير نظام القذافي فإنها لم تتمكن من ملء الفراغ الأمني الذي نشأ ولم تكن هذه من مهماتها أصلا. واكتفى حلف الأطلسي وشركاؤه بالاعتراف بالمجلس الانتقالي في بنغازي والتشكيلات المسلحة المتحالفة معه سلطةً شرعية ثم مدّه بالمساعدات والرهان على حصيلة ايجابية من ذلك.
ولكن المشكلة أن الثوار الليبيين ليسوا جيشاً بل لملوم من الوحدات المحلية الصغيرة والمنشقين عن الجيش النظامي وفريق من المغتربين السابقين من ذوي الخبرة العسكرية. والأكثر من ذلك أن الاعتراف الذي أعلنته القوى الدولية في المجلس الانتقالي كان متقدما بكثير على مدى استعداد الليبيين للقبول بقيادته، وخاصة من كانوا على الخطوط الأمامية لجبهة القتال ضد قوات القذافي.

وحقيقة أن قيادة الثوار لم تهيئ سلطة بديلة كانت تعني انهيار سلطة الدولة بسقوط القذافي ونظامه. ويتمثل التحدي الذي يواجه الحكومة الجديدة الآن ببناء دولة جديدة على أنقاض الدولة السابقة، والمهمة الأولى في عملية بناء الدولة هي احتكار القوة العسكرية داخل حدودها.
ويواجه المجلس الانتقالي الآن صعوبة في تصديه لهذا التحدي، كما تلاحظ مجلة تايم ناقلة عن ليبيين من سكان العاصمة أنهم يتعرضون لتهديد مسلحين من خارج المدينة. ويزداد هذا التهديد خطرا على سكان البلدات والأحياء التي يُعتقد أنها كانت مؤيدة للقذافي حيث يستهدفهم مسلحون بمضايقات يومية تقريبا.
ورغم حديث المجلس الانتقالي عن quot;المصالحة الوطنيةquot; فانه لا يملك سيطرة على المقاتلين الذين تهدد تصرفاتهم هدف المصالحة ذاته. وبدلاً من ضبط المقاتلين فان المجلس يجد نفسه مرغما على مداراتهم.
وإذ تعمل الانقسامات المناطقية والقبلية على تأجيج المزاحمات العنيفة بين التشكيلات المسلحة المختلفة فان استعداء المناطق التي كانت موالية للقذافي أيضا يوفر تربة خصبة للتمرد المسلح. وهناك الكثير من القادرين على حمل السلاح والمسلحين الذين قاتلوا مع النظام السابق.

وأفادت تقارير أن شعارات مؤيدة للقذافي ما زالت تُكتب ليلا في بعض أحياء طرابلس. وحذر مسؤولون بريطانيون من أن قادة عسكريين كبارا موالين للقذافي غادروا باكستان عائدين إلى ليبيا بهدف استغلال الفراغ الأمني لاستئناف نشاطهم هناك.
وستكون إدارة التحديات الأمنية أسهل لو كان هناك توافق سياسي على أسس بناء الدولة الديمقراطية الجديدة. كما واجه المجلس الانتقالي طعونا بشأن انعدام الشفافية في تركيبته وعملية اختيار أعضائه وفي كانون الأول/ديسمبر أُقيم مخيم احتجاجي خارج مقره للمطالبة بالكشف عن أسماء أعضائه وإعلان قراراته للملأ.

ولا يثق مقاتلو مصراتة والزنتان بقيادة الثوار في بنغازي، وهم يستخدمون قوتهم المسلحة بشكل سافر للمطالبة بنصيب أكبر من الكعكة السياسية ـ على سبيل المثال رفضهم تسليم معتقلين من أركان النظام السابق بينهم سيف الإسلام نجل القذافي ما لم تتحقق مطالبهم السياسية. وفي الشهر الماضي، طالبت مجموعة باسم quot;اتحاد ثوار ليبياquot; تقول انها تمثل 70 في المئة من المقاتلين بأن يمنحها المجلس الانتقالي 40 في المئة من مقاعده.
وللنزاع بين كتائب المقاتلين أسباب سياسية من حيث الأساس. فهو الشكل الذي تعبر به التجمعات القبلية والمناطقية المختلفة عن مطالبها بنصيب من السلطة والثروة في ليبيا ما بعد القذافي.
ولا يُعرف كيف سيتمكن النظام السياسي الذي يجري بناؤه لضبط هذه الصراعات من تخفيف حدة الاحتقانات ومعالجتها. ولكن المعايير التي يعتمدها المجلس الانتقالي في اختيار اعضائه لم تُعلن حتى الآن ومسودة القانون الانتخابي التي طُرحت للنقاش قد لا تكفي لحل الانقسامات.
فالمسودة لا تحدد عدد المقاعد التي ستذهب لهذه المنطقة أو تلك، رغم أن هذا الجانب من القانون يتسم بحساسية شديدة ولا سيما انه يرتبط بتوزيع الثروة النفطية في النظام الجديد. كما يعتزم القانون الجديد حجب حق الترشيح عن الذين يتولون مناصب في الحكومة الانتقالية ومجالسها المحلية والعسكرية الحالية ومسؤولي النظام السابق والذين يُعدون ممن تأخروا في الانضمام إلى قضية الثورة.
ومثلما دحض الواقع طاقم الرئيس بوش الذين أصروا على أن غالبية القوات الأميركية التي غزت العراق ستعود في وقت قريب فان دعاة التدخل على الطريقة الليبية قد يجدون أنفسهم مرغمين على إعادة النظر في وصفتهم هذه خلال الأشهر المقبلة، كما ترى مجلة تايم.