جاء حريق الأسواق القديمة في حلب، ليخرجها من التراث العالمي، ويحوّل المدينة العريقة بتاريخها وتراثها إلى مدينة أشباح، يمر العابر ليقول: كانت هنا مدينة عريقة اسمها حلب.


جانب من أسواق حلب التراثية المسقوفة بعد تعرضها لحريق

حلب: تجاوزت الحرب المستعرة رحاها فى سوريا بين المعارضة والنظام كل الخطوط الحمراء، فبعدما تدفقت دماء السوريين أنهاراً لتروي ثرى الشام ، فإن التراث الإنساني أوشك أن يختفي مع كل الأرواح التي أزهقت بفعل الحرب.

فمدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، وثاني أكبر مدنها، تغرق اليوم في دوامة حرب، أبت الا أن تحرق كل ما هو أخضر ويابس أمامها، ليس فقط في قلب سوقها التاريخية وحدها، وإنما في باقي مدن سوريا.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، من جانبها استنكرت ما يجري في مدينة حلب، وقالت على لسان مديرها العام quot;إيرينا بوكوفاquot;، إن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالأسواق القديمة في حلب القديمة، جراء حريق نشب إثر قتال عنيف في المدينة، كانت ضربة قوية للتراث العالميquot;.

وأعربت بوكوفا عن مدى حزنها واستيائها، إثر الأنباء الواردة عن الحرائق، التي ألحقت أضراراً جسيمة بمنطقة الأسواق القديمة، باعتبارها أحد المواقع المدرجة على قائمة التراث العالمي.

وفي بيان صحافي أشارت المديرة العامة لليونسكو، إلى أن التقارير الواردة من حلب مؤلمة للغاية، وأشارت إلى المأساة الإنسانية، لكنها أوضحت أن الأضرار التي لحقت بالتراث الثقافي السوري جعلت الصراع أكثر سوءاً، وأوضحت أنها تقف شاهداً على مدى أهمية مدينة حلب كملتقى ثقافي منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.

من جانبهم، اتهم نشطاء في المعارضة القوات النظامية بإضرام الحرائق، لافتين إلى أن السلطات لم تكترث إلى الحريق الذي انتقل من محل إلى محل ومن شارع إلى شارع.

ومنعت قوات النظام مقاتلي الجيش الحر من إخماد الحرائق عبر استهدافهم بالقناصة ومنعهم من الاقتراب إلى المنطقة، يضاف إلى ذلك صعوبة انتقال سيارات الإطفاء إلى موقع الحرائق بسبب ضيق الشوارع والأزقة.

وتعد سوق المدينة في حلب من اكبر الأسواق الشرقية المسقوفة في العالم، بمساحة كلية تصل حتى 16 هكتاراً أو بطول 16 كيلو متراً، وشيد معظم أجزاء السوق في القرن الرابع عشر وسميت حسب أسماء الحِرف والمهن المزاولة فيها.

ويتخوف الكثيرون أن تسفر تداعيات الحريق عن شل الحياة الإقتصادية في مدينة حلب القديمة، لاسيما وأن هذه الأسواق تعتبر شريان الحياة الإقتصادية وفقاً للناشطين في المدينة.

وزير الآثار المصري: النهب مستمر للممتلكات الثقافية السورية

من جهته، حذر وزير الآثار المصري محمد إبراهيم من quot;مخاطر النهب المستمر للممتلكات الثقافية السورية وسلبهاquot;، معتبرًا أن ما يحدث فى سوريا يعيد تكرار المشهد المأساوي في العراق.

وكشف عن قيام الآثار بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بـquot;حصر كل الممتلكات الثقافية السورية التي تعرضت للتدمير.

جاءت تصريحات الوزير المصري الاثنين على هامش الإجتماع الطارئ لدراسة سبل حماية التراث الحضاري في مدينة حلب، الذي دعت اليه منظمة الايسيسكو، وتنظمه كلية الآثار في جامعة القاهرة على مدى يومين تحت رعاية وزارة الآثار ووزارة التعليم العالي المصرية.

وأعرب الوزير في كلمته عن quot;الحزن الشديدquot; للتقارير التي تفيد بحدوث quot;مواجهات عنيفة في كثير من المدن التاريخية السورية المدرجة في قائمة التراث العالميquot;، معربأ عن quot;الأسفquot; لما تتعرض له من تدمير، واصفأ ما يحدث quot;بالعبثquot;. ودعا المجتمع الدولي quot;بكل مؤسساته المعنية والمنظمات العلمية الآثرية الدولية وعلى رأسها منظمة اليونسكو إلى التدخل لحماية المنشآت السورية من التدميرquot;.

ووجّه وزير الآثار المصري quot;إستغاثةquot; إلى الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، أكمل الدين إحسان أغلو، والأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي، لـquot;التحرك لوقف سيناريو التدميرquot; في سوريا.

وكشف الوزير عن إستعداده لإرسال خبراء مصريين في إطار التعاون مع إتحاد الآثريين العرب لتقويم حجم الأضرار التي تعرضت لها مدينة حلب المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1986.

بدوره، أعرب ممثل منظمة الإيسيسكو عبد العزيز صلاح، عن أن المنظمة quot;تؤكد تخوفها وتعرب عن قلقها العميق من ضياع هذا التراث الحضاري السوري الفريد الذي أصبح مهددًا بالتدمير والنهب والسرقةquot;. وطالب الدول الأعضاء في المنظمة والمجتمع الدولي quot;بالتدخل الفوري للضغط من أجل وقف القصف الدائم للمدن السورية ولمعالمها الأثرية، والذي يعد انتهاكًا صارخًا للمواثيق الدولية ولإقرارات لجنة التراث العالميquot;. وكما توجه بالدعوة لمنظمة اليونسكو quot;إلى تحمل مسؤوليتها بإعتبارها المسؤولة عن المعالم الحضارية والحفاظ على سلامة الموروث المشتركquot;.

تحذير من تكرار سيناريو نهب آثار العراق في حلب
حذّر علماء آثار من تكرار كارثة نهب الآثار العراقية في مدينة حلب السورية نتيجة ما تتعرض له على يد النظام الحاكم. وأوصى العلماء بضرورة ابتعاث فرق ميدانية إلى حلب للتصدي لمحاولات تدمير التراث الحضاري الإسلامي في سوريا، محذرين من تكرار كارثة السلب والنهب التي لحقت بآثار العراق في 2003.

جاء ذلك خلال مؤتمر عقدته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة quot;إيسيسكوquot; في القاهرة الاثنين - ويستمر على مدى يومين - بالتعاون مع وزارة الدولة المصرية لشؤون الآثار وجامعة القاهرة، شارك فيه خبراء من سوريا، الأردن، فلسطين، تونس، السعودية.

وقال عبد العزيز سالم، ممثل منظمة quot;إيسيسكوquot; لمراسلة وكالة الأناضول للأنباء على هامش المؤتمر: quot;نسعى إلى العمل على صياغة برنامج عملي للتدخل السريع لإنقاذ التراث المعرض للأخطار، سواء بالترميم والصيانة أو بالتوثيق والجرد للمعالم الأثرية التي تعرضت للتدميرquot;.

وأشار إلى أن quot;مثل هذه اللقاءات تعمل على تجنيد الرأي العام العربي والإسلامي والدولي للتدخل السريع لإيقاف الاعتداءات على معالم التراث الحضاري والإسلامي والمساجد الأثرية فيهاquot;.

وحذر سالم من تزايد المخاوف من ضياع الآثار والمواقع التاريخية في البلاد في ظل القصف العشوائي الذي يطال مختلف المناطق الأثرية، منوهًا بوجود عمليات نهب منظمة للكثير من المتاحف، وبيع القطع الفنية للخارج، مما يضع التراث الحضاري في حلب بين مطرقة القصف بالقنابل والرصاص، وسندان النهب والاتجار غير المشروع بالآثار.

من جانبه، أكد فتحي البحري، ممثل تونس في المجلس العالمي للتراث الإنساني، على خطورة ما تتعرض له الآثار في حلب من ظواهر التنقيب السري عن الآثار بغرض الإتجار غير المشروع فيها، وتهريبها خارج البلاد.

واختارت منظمة المؤتمر الإسلامي مدينة حلب عاصمة للثقافة الاسلامية في العام 2006، نظراً إلى مكانتها التاريخية العريقة، التي تمتد إلى 10 آلاف عام.

كما أدرجت منظمة quot;اليونيسكوquot; مدينة حلب على لائحة مواقع التراث العالمي، لما اعتبرته أنها متحف للتاريخ، حيث تجتمع على أراضيها أهم الشواهد المعمارية الخالدة عبر التاريخ ولحضارات كثيرة متنوعة.

وقال محمد إبراهيم ، وزير الدولة المصرية لشؤون الآثار، لـquot;الأناضولquot; إن القاهرة مهتمة بدراسة سبل حماية التراث الحضاري في مدينة حلب سعيًا إلى توفير الخبرات والقدرات المصرية المتخصصة في ترميم الآثار لخدمة التراث التاريخي النادر.

وأضاف أن وزارته تعمل حاليًا بالتعاون مع عدد من الخبراء المصريين والعرب، لتقويم الوضع الراهن للتراث الحضاري في المدينة السورية وتحديداً الآفاق المستقبلية لحمايته من التدمير والتخريب والسلب والنهب.

وقال السوري وليد عبد الرحمن الأطرش خبير المنشآت الأثرية الإسلامية في حلب إن النيران تجتاح الأسواق القديمة في المدينة منذ الأمس، مما أدى إلى احتراق عدد من المتاجر ذات الأبواب الخشبية.

قلعة حلب التاريخية الشهيرة

وشرح الأطرش القيمة التاريخية لأسواق حلب القديمة، قائلاً: تعتبر أسواق حلب، أطول الأسواق المسقوفة في العالم، حيث يبلغ طولها نحو 7 كيلو مترات، مشيرًا إلى أنها مازالت تحتفظ بطابعها الشرقي الأصيل حتى الآن. وتقع محافظة حلب في شمال سوريا وتعد من أكبر المدن السورية، حيث يبلغ عدد سكانها 2 مليون نسمة.

وأضاف الأطرش: كانت quot;ولاية حلبquot; خلال الإمبراطورية العثمانية، عاصمة لسوريا، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي القريب من الأناضول، ولعبت دوراً محورياً في الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية، والمدينة الرئيسة للتجارة في بلاد الشرق والغرب.

وتشتهر محافظة حلب بغناها بالأماكن الأثرية المهمة التي تعكس عمق وعراقة الحضارة السورية الموغلة في التاريخ، وتعد قلعة حلب الضخمة من أشهر المعالم الأثرية في المدينة، وتقع على تلة مرتفعةً مشرفةً بذلك على كل أحياء المدينة القديمة، ويتوسطها مدرجٌ واسع هو مدرج القلعة الذي يحيا فيه العديد من الحفلات.

كما تشتهر حلب بأبوابها والتي تمثل جزءًا أساسيًا ومهمًا من السور الذي يحيط بالمدينة، فقد كانت هذه الأبواب منفذ أهل حلب عبر السور المنيع الذي رد عنهم هجمات الغزاة على مر العصور، ومنها باب الحديد، باب أنطاكية، باب النصر، باب قنسرين.

وتعرف حلب بالأسواق والخانات فهي مدينة تجارية بامتياز، فقد جذب موقع المدينة الاستراتيجي على طريق الحرير العديد من السكان من كل الأعراق والمعتقدات ليقطنوا فيها ويستفيدوا من وقوعها بين الصين وبلاد الرافدين من الشرق وأوروبا من الغرب، ومصر في الجنوب.

فنان لبناني يطلق حملة quot;أنقذوا حلبquot;
يطلق التينور اللبناني غبريال عبد النور والسفير الفخري للفن والسلام لكتيبة اليونيفيل الغنائيّة حملة لانقاذ مدينة حلب السورية، مما تتعرّض له من قصف وتدمير يستهدفان البشر والحجر ويقضيان على تراث عريق يتجاوز عمره الألفي عام.

يهدف التينور عبد النور من وراء الحملة الى جمع تواقيع أكبر عدد من الفنانين والمثقفين الرافضين لهذا الواقع المرير الذي تتعرض له حلب وكل الأراضي السورية والدمار اللاحق بآلاف السنين من الحضارة.

ومع انتهاء الحملة تُرفع التواقيع الى منظمة الأونيسكو القيّمة على التراث العالمي، إشارة إلى أن ّمدينة حلب لها مكانة خاصة عند غبريال عبد النور، لما تجسده من مثال للتعايش والتآلف بين مكوناتها وتعانق الكنائس والمساجد في شوارعها، وقد خصّص لها في ألبومه الأخير quot;قمر بيروتquot; أغنية بعنوان quot;مدينة تاريخيةquot;، اضافة الى قصيدة quot;الشهباء الفاتنةquot;، وأقام فيها أبرز حفلاته، وقدّم في بداية الأزمة السورية أمسية بعنوان quot;لا ما بدنا الحروب تطفي شمس الأوطانquot; بمشاركة مجموعة كبيرة من أطفال سوريا.