تشتبك أذربيجان، التي تريد الانفتاح على العالم، في حرب إيديولوجية مع إيران التي تعاني عزلة دولية. وكان أحدث سلاح تلقته أذربيجان في هذه الحرب وصل خلال الشهر الماضي على أسطول من الطائرات الآتية من كاليفورنيا برفقة قوة أمنية خاصة وألعاب نارية مذهلة وصناديق مليئة بأدوات الزينة والملابس.


إعداد عبد الاله مجيد: احتشد نحو 3000 شخص لمشاهدة قائدة هذا الغزو تتقافز على مسرح أُنشئ على شاطئ بحر قزوين. وبعد تحية الجمهور بعبارة quot;أهلا أحبائيquot; شرعت الفنانة جينفر لوبيز في الغناء لتطرب جمهورها وتغيظ الملالي على الضفة الأخرى من البحر.

وقال مسؤول آذري حضر الحفلة التي أحيتها المغنية الاميركية في اذربيجان الشيعية ذات التسعة ملايين نسمة انه كاد يلمس شعور الملالي وهم يستشيطون غضبًا على الجانب الآخر، مضيفا quot;ان هذه الفعاليات تصيبهم بالجنونquot;.

لاحظ مراقبون ان لمثل هذه الفعاليات تأثيرًا حقيقيًا على القادة الايرانيين، وانها قد تكون متعمدة، وان اذربيجان، جارة ايران وغريمها التقليدي، أخذت تجد متعة في ممارسة دور البلد العلماني ذي التوجّه الغربي المناوئ لايران، البلد الذي يطمح في ان يكون نقيض ايران في كل شيء.

وفي وقت تشتد عزلة ايران الدولية وأزمتها الاقتصادية، فإنّ جارتها الشمالية تنطلق في الاتجاه المعاكس عبر إقامة علاقات سياسية وثقافية مع الغرب ومدّ أنابيب نفط جديدة تربط أوروبا العطشى دائمًا الى الطاقة بحقول أذربيجان النفطية الغنية على بحر قزوين. وبالمقارنة مع النظام الايراني القمعي والحكم اللاهوتي، تبدو اذربيجان منفتحة اجتماعيا ومتسامحة دينيا، تقدم نفسها إلى العالم بوصفها نموذج مجتمع مسلم بعيد عن الطائفية يشجّع على الرياضة النسائية، ويقبل على الموسيقى الغربية ويستضيف نجومها.
كما تقيم اذربيجان علاقات دبلوماسية وتجارية متنامية مع اسرائيل.

يؤكد قادة أذربيجان أن هذه السياسات ليست موجّهة ضد ايران، وهم يشيرون الى تاريخ مديد من العلاقات الودية عمومًا مع الجار الجنوبي الأكبر. ولكن مع كل خطوة تتخذها اذربيجان نحو الحداثة ومع كل فنانة غربية تطأ ارضها للغناء على مسرح باكو الدولي المتسع، تدق اذربيجان مسمارًا في نعش النظام الايراني وتؤجّج مشاعر الاستياء والنقمة بين المواطنين الايرانيين على حكامهم، كما يقول مسؤولون غربيون يتابعون الوضع في هذه المنطقة من العالم.

ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن السفير الاميركي السابق في اذربيجان ماثيو بريزا، الذي يعمل الآن مستشارًا خاصًا، ان ما تفعله اذربيجان يشكل quot;واحدًا من اخطر التهديدات لشرعية النظام الايراني على المدى البعيدquot;. واضاف بريزا انه كلما ازدادت اذربيجان قوة من الناحية الاقتصادية وتعززت أواصرها بالمجموعة الاوروبية ـ الاطلسية، زاد النظام الايراني ضعفا.

لكن اذربيجان بعيدة عن كونها نموذجا يُقتدى. ويلاحظ مراقبون هيمنة حزب واحد على الحكومة في باكو، التي كثيرًا ما تعرّضت لانتقاد منظمات حقوقية مستقلة بسبب سجلها في مجال حقوق الانسان وتفشي الفساد في مفاصل الدولة. كما تخوض اذربيجان منذ نحو عقدين نزاعًا مع جارتها الأخرى أرمينيا حول السيطرة على منطقة ناغورنو قرة باغ.

وقال دبلوماسي غربي في باكو طلب عدم ذكر اسمه لصحيفة واشنطن بوست quot;ان الايرانيين ينظرون الى اذربيجان على انها لاعب اقليمي صاعد في وقت يتعرّضون هم الى التهميش تحت وطأة العقوباتquot;. واضاف ان الايرانيين يرون سفارات جديدة تفتح ابوابها واستثمارات اجنبية تتدفق... وبالتالي فان quot;اذربيجان تكسب وايران تخسرquot;، على حد تعبيره.

انفتاح ثقافي
كانت زيارة الفنانة جينفر لوبيز الى باكو حلقة واحدة في سلسلة فعاليات تدلل على الانفتاح الثقافي في اذربيجان الصاعدة حديثًا في منطقتها. وكان منظمو الحفلات تمكنوا من استدراج فنانين غربيين معروفين الى البلد خلال الاسابيع الأخيرة، بينهم المغنية ريهانا، التي وصلت الى باكو بعد اسبوعين على حفلة لوبيز الأولى في 23 ايلول/سبتمبر.

وفي اعقاب ريهانا حلت المغنية الشقراء شاكيرا ضيفا على المدينة ليكتمل مثلث فنانات معروفات بالتخفيف قدر الامكان من الملابس على المسرح وبالحركات الاستفزازية جنسيا خلال الغناء. ولكن لم يظهر على جمهور الآذريين المسلمين الذين حضروا هذه الحفلات ما ينمّ عن شعورهم بالامتعاض من أداء الفنانات الثلاث، بل ان عشرات آلاف الآذريين الشباب دفعوا ما يعادل اجور اسبوع مقابل فرصة التمايل مع لوبيز، وهي تقدم وصلتها في القاعة البلورية الباذخة التي أُنشئت على ضفة بحر قزوين في باكو. واقام آخرون في خيم خارج فندقها وسط المدينة، على أمل ان يكحلوا أعينهم بمشاهدة الفنانة.

وقالت ليلى التي نشرت وجهة نظرها بخصوص حفلة لوبيز على موقع الكتروني للجمهور quot;انه اجمل استعراض شاهدته في حياتيquot;.

واشار مسؤولون اذريون الى انهم دعوا الفنانات إلى لفت الانتباه الى فعالية أخرى هي مسابقات كأس العالم في كرة القدم للنساء هذا العام في باكو، وان الهدف هو ترويج صورة اذربيجان بوصفها بلدا تقدميا لا يحمي حقوق المرأة فحسب، بل يشجّع على مشاركتها في الرياضة والفنون ايضا.

وأوضح الدبلوماسي الأذري نوروز مامادوف مدير العلاقات الخارجية في حكومة الرئيس الهام علييف ان حكومته تدرك quot;ان اقامة دولة علمانية تقدمية قضية مهمة لهذا البلدquot;.

ويؤكد مسؤولون اذريون ان تعارض سياسات البلد مع التوجه المحافظ لبعض بلدان المنطقة هو محض صدفة. وفي الحقيقة ان هذا التعارض يتبدى بأسطع صوره بالمقارنة مع ايران. وما الحفلات الموسيقية الغربية والمسابقات الكروية النسائية إلا وجه واحد من أوجه التعارض.

ففي ميناء باكو القديم، حيث تتعايش الآثار الزرادشتية مع ناطحات السحاب الحديثة، يلاحظ الزائر شابات وشبانا يسيرون بأيدٍ متشابكة أو يتعانقون على المصاطب في الحدائق العامة، وهي مظاهر عاطفية ممنوعة في طهران. وتبحث نساء وفتيات بسراويل جينز ذات علامات معروفة عن صفقات مربحة في مخازن غربية مثل بينيتون وبيبي. ونادرا ما تمر محجبة في الشارع، ولكن الملاهي والنوادي الليلية تنتشر على امتداد الشوارع الرئيسة المزدحمة بالسيارات ومواقع البناء.

وبفضل صناعة النفط المزدهرة ارتفع اجمالي الناتج المحلي في اذربيجان بمعدل 35 في المئة سنويا، هو الأعلى في العالم، خلال منتصف العقد الأول من القرن، قبل ان يتراجع بسبب الأزمة المالية الاوروبية. وتكفلت عائدات النفط بتمويل حركة الاعمار في العاصمة والمساهمة في خفض معدلات الفقر الرسمية من 50 في المئة الى اقل من 16 في المئة خلال عقد واحد.

وسعت الحكومة المركزية الى رفع مستوى التعليم والخدمات الصحية، لا سيما في المناطق الريفية. ولكن باكو تمكنت من قطع الطريق على التطرف الديني، وإن كان ذلك على حساب الحريات السياسية احيانا. وقال مسؤولون ان الغالبية العظمى من الاذريين تعتز بتقاليد بلدهم العلمانية التي كانت راسخة قبل ان تصبح اذربيجان جزءًا من الاتحاد السوفيتي رغم انتماء غالبية الاذريين الى المذهب الشيعي لأبناء عمومتهم في ايران.

وقال ميكايل جباروف مدير صيانة المواقع التاريخية والمعمارية ان اذربيجان لم تتغير كثيرًا، ولكن الآخرين اصبحوا يفهمون هويتها بصورة افضل. واشار الى أن مدارس البنات كانت موجودة في اذربيجان قبل 100 سنة، وانها اول بلد مسلم منح المرأة حق التصويت. وقال quot;ان الذهنية تشكلت في ذلك الوقتquot;.

أزمة غنائية
لكن تقاليد اذربيجان العلمانية لم تصبح مشكلة لجيرانها إلا في الآونة الأخيرة، بحسب المسؤولين، وان انزعاج ايران من توجه اذربيجان الغربي تحول الى حقد، ثم عداء، بعد نشر تقارير في العام الماضي، ذكرت ان اذربيجان وفرت القتلة الذين استعانت بهم اسرائيل في اغتيال علماء نوويين ايرانيين. ولكن اذربيجان تنفي ذلك بشدة.

ثم اعلنت السلطات الاذرية في شباط/فبراير احباط ما قالت انها مؤامرة ايرانية لقتل دبلوماسيين اسرائيليين ومعلمين في مدرسة يهودية في باكو. واسفر التحقيق اللاحق عن توجيه الاتهام الى 22 ايرانيا بالتورّط في سلسلة من المخططات الرامية الى استهداف سفارات ومصالح غربية، بينها البعثة الدبلوماسية الاميركية في باكو.

واعترى التوتر علاقات البلدين عقب هذه الأحداث. ولكن الأزمة الأكبر بين باكو وطهران انفجرت لاحقا، وكان سببها فعالية ثقافية هي اختيار اذربيجان لاستضافة مسابقة الأغنية الاوروبية quot;يوروفيجنquot; ذات الشعبية الواسعة. وكانت المسابقة فرصة اذربيجان للتباهي بمنجزاتها، فأنفقت مليارات الدولارات على بناء قاعة المسابقة وتجديد الطرق والجادات والشوارع الرئيسة استعدادا لافواج السياح والزوار. ولكن ايران هاجمت المسابقة بوصفها quot;تظاهرة مثليةquot; معادية للاسلام، واستدعت سفيرها احتجاجًا.

أثار رد الفعل الايراني المتشنج استغراب الاذريين. وقال رئيس دائرة العلاقات العامة والسياسية في الحكومة الاذرية علي حسنوف للصحافيين آنذاك quot;لا ادري من وضع هذه الفكرة في رؤوس الايرانيين. فنحن نستضيف مسابقة للأغنية، وليس تظاهرة مثليةquot;.

لكن الاذريين كانوا اصلاً معجبين بألق الفعاليات التي تُنظم على طريقة هووليود، وكانت حكومتهم ترفل في الاهتمام الدولي المنصب على بلدها من دون أن تغفل حنق ايران الشديد. وطُرحت تذاكر حفلة جينفر لوبيز للبيع في الشهر التالي على مسابقة الأغنية الاوروبية فنفدت بسرعة خاطفة. والى جانب سعادة منظمي الحفلة بهذا النجاح التجاري، كسبت اذربيجان معجبين جددًا في بلد بدا انه يقف الى جانب الفنانين ضد الملالي، بما في ذلك من دلالات تخطت حدود اذربيجان.

وتحدث دبلوماسي غربي عن اقبال اذربيجان على موسيقى البوب الغربية قائلاً لصحيفة واشنطن بوست quot;من السهل ان يضحك المرء، ولكن ذلك جزء من استراتيجيتهم في السياسة الخارجية، وهي في الواقع استراتيجية ذكية تقول للعالم من جهة quot;نحن بلد حقيقي، ونستطيع ان نستقطب فعاليات ترفيهية على مستوى عالميquot;، ومن الجهة الأخرى تدفع الايرانيين الى الاستشاطة غضبًاquot;.