حين يحصل لبنان على معدّل 2.5 من عشرة في مؤشر مدركات الفساد، الصادر عن منظّمة الشفافية الدولية، فهذا يعني أن الفساد ثقافة مستشرية في المجتمع اللبنانيّ. وحين يضطر 65 في المئة من رجال الأعمال في لبنان إلى دفع الرشاوى لتسهيل وتسريع الإجراءات الحكومية، لا يعود هناك مجال للجدل حول الضرر المباشر الذي يسبّبه الفساد للقطاع العام تحديداً.

بيروت: quot;الوضع لم يعد يحتمل، كلّ معاملة نحتاجها يجب أن نخصّص لها مبلغًا للرشاوى أو الهداياquot;... هكذا يُعبّر المواطن اللبنانيّ أسعد الأمين عن تأففه من شيوع ظاهرة المغلّفات التي تقدّم للموظّفين الرسميين بغية تسريع عملية الحصول على الأوراق المطلوبة.
المئات من المواطنين مثل أسعد يشكون على أبواب الإدارات العامة من طريقة تعاطي الموظّفين معهم، فلكلّ معاملة ثمنها وإلا التأجيل أو الرفض. ولا تقف الرشاوى عند حدود المعاملات البسيطة، إنما تطال مجالات أكثر خطورة مثل الحصول على رخصة بناء أو رخصة قيادة، وصولاً إلى دفع الموظّف لغضّ النظر عن مخالفة أو التهرّب من دفع الضرائب.
تُغرق كلّ هذه التراكمات الإدارات العامة أكثر فأكثر في بؤرة الفساد، ما يصعّب إعادة إحياء مفهومي النزاهة والخدمة العامة. لكنّ الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية ndash; لا فساد لم تستسلم بعد، وهي تقود اليوم حملة إصلاح للقطاع العام عبر التشريع القانونيّ وتحفيز المواطنين ليكونوا quot;كاشفين للفسادquot;.
حان وقت الإستيقاظ!
شكّلت التقارير والأبحاث، التي عملت عليها الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية منذ تأسيسها قبل 13 عامًا، مرجعًا لكلّ الباحثين عن معلومات حول ملف الفساد، إلا أنّ الواقع الراهن يدفع القائمون عليها لتغيير إستراتيجيتهم بهدف تحفيز المواطنين ليؤدوا دورهم أيضاً في مجال مكافحة الفساد.
تتمثّل الخطوتان الأساسيتان في هذا المجال بحملة quot;صار وقت نوعاquot; (حان الوقت للإستيقاظ) التي تنظّم بدعم من منظّمة الشفافية الدولية، بالإضافة إلى تفعيل دور المركز اللبنانيّ لحماية ضحايا الفساد (LALAC).
يشرح رئيس الجمعية ربيع الشاعر لـquot;إيلافquot; أنّ الدعوة للإستيقاظ quot;موجّهة للكلّ في لبنان، كجمعيات أهلية وسلطات رسمية ومواطنين وصولاً إلى الإعلامquot;، لأنّ الفساد أصبح ثقافة معممّة في كافة المجالات. وتحثّ الحملة كلّ ضحية للفساد أن ترفض الأمر الواقع وتتكلّم وتفشي المشكلة التي حدثت معها.
وإذا كان اللبنانيون يعتبرون أنفسهم وحيدين في مواجهة الفساد المستشري في الإدارات العامة، فالشاعر يدعوهم للتخلّي عن سياسة التأفف التي لا تترجم تفسها بأي تصرف عمليّ. وينصح الشاعر ضحية الفساد بالإتصال بالمركز والتبليغ عن الشكوى، حيث يحصل على إستشارة قانونية مجانية حول كيفية التعامل مع المشكلة.
كما يذكّر رئيس الجمعية بالمادة 353 من قانون العقوبات التي تنصّ على quot;أن يُعفى الراشي أو المتدخّل من العقوبة إذا باح بالأمر للسلطات ذات الصلاحية أو إعترف بها قبل إحالة القضية إلى المحكمةquot;. وبالإرتكاز على هذه المادة، يبرز الدور الأساسيّ الذي يؤديه المركز من ناحية تلقّي الشكاوى ومتابعتها.
تبقى المشكلة التي تعترض الدعاوى ضدّ المرتشين في صعوبة إثبات الرشوة، عبر إقرار الموظّف أو وجود قرائن ثابتة، لكنّ الشاعر يؤكد أنّ المحاسبة لا تسقط. وما يقوم به المركز هو جمع الشكاوى ورفعها إلى الإدارات المختصّة وإيصالها إلى الوزير المعنيّ، وهذا ما يشبّهه الشاعر بأنّه quot;صورة أشعّة للإدارات الرسمية بهدف تحديد مكامن الفسادquot;.
ملزم بتجريم الفساد
وتطال المبادرات التي تقوم بها الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية الجانب التشريعيّ أيضاً، من خلال الضغط لإقرار العديد من إقتراحات مشاريع القوانين مثل quot;الحقّ في الوصول إلى المعلوماتquot; وquot;حماية كاشفي الفسادquot;، وصولاً إلى المطالبة المستمرة بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
في هذا السياق، يورد الشاعر أرقامًا تحمل الكثير من الدلالات لإظهار أهمية هذه الإقتراحات. يلجأ 75 في المئة من المواطنين إلى الواسطة والرشوة للوصول إلى المعلومات في مختلف إدارات الدولة اللبنانية، ولا تتجاوز نسبة الشفافية في الموازنة العامة 34 في المئة، ما يشير إلى أنّ المواطنين اللبنانيين يصعب عليهم جداً معرفة طريقة إستخدام الأموال العامة وتوظيفها وحتّى هدرها. الحلّ بحسب الشاعر هو إقرار إقتراحات القوانين وتطبيقها بفعالية، خصوصاً أنّ لبنان قد انضمّ في العام 2009 إلى إتفاقية مكافحة الفساد التي أقرّتها الجمعية العامة للامم المتحدة في العام 2003، وهذا يعني أنّه مُلزم قانونًا بتجريم الفساد ومنعه.
قوانين قريبًا
ليست الجمعيات الأهلية وحدها التي ترى أنّ الأداة الأساسية لمكافحة الفساد هي التشريعات القانونية المطبّقة بفعالية، فالقضية نفسها تُطرح اليوم بين النوّاب اللبنانيين وصولاً إلى إجتماعات مجلس الوزراء، خصوصاً أنّ الفساد لا يقف عند حدود الرشوة والمحوسبية إنما يطال العقود والصفقات التي تجري على المستوى الوطنيّ.
يكشف النائب غسّان مخيبر، العضو في تكتّل التغيير والإصلاح ونائب رئيس منظّمة (برلمانيون عرب ضدّ الفساد)، في حديث لـquot;إيلافquot; عن قرب مناقشة إقتراح قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات، من ضمن مشاريع القوانين المدرجة، بعدما تنتهي لجنة الإدارة والعدل من دراسته.
لكنّ مخيبر لا يخفي خشيته من عدم إنعقاد المجلس النيابيّ، ما يعيد تأجيل إقرار إقتراح القانون الذي ينتظر أن يُفرَج عنه منذ العام 2009. وهذا ما يطال أيضاً إقتراح القانون الخاص بحماية كاشفي الفساد الذي أعدّ في العام 2010 ولم ينل الفرصة بعد للمناقشة من قبل اللجان النيابية، حيث يبدي مخيبر أمله بإقراره من قبل البرلمان، بالإضافة إلى إقتراح قانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

التحدي في التطبيق
يعيد السعي المدنيّ والرسميّ لإقرار إقتراحات قوانين ضد الفساد التذكير أيضاً بقانون موجود منذ العام 1999، هو الإثراء غير المشروع المعروف بـ quot;من أين لكَ هذا؟quot;. وقد ألزم هذا القانون الرؤساء والوزراء والنوّاب وفئات معيّنة من القضاة والموظّفين بالتصريح عن أموالهم وأموال زوجاتهم وأولادهم القاصرين تحت طائلة عقوبات معيّنة.
لكنّ مضمون القانون جعله غير قابل للتطبيق، بما أنّه نصّ على أن يُحاط التصريح عن الأموال بسرية مطلقة ويُعاقب من يفشي هذه السرية بسنة سجن، وكذلك فإنّ الشاكي يجب أن يقدّم كفالة مصرفية بقيمة 25 مليون ليرة لبنانية ما يمنع على المواطن العادي تقديم شكوى.
ولتفعيل مكافحة الفساد على صعيد صانعي القرار، يؤكد مخيبر أنّ اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل التي يترأسها بنفسه إنتهت من دراسة مشروع تعديل قانون الإثراء غير المشروع لكي يكون قابلًا للحياة. لكنّ quot;التحدّي في التطبيقquot; كما يشدّد مخيبر، فيما يبقى الأمل مرتبطاً بالهيئات التي ستشكّل لمتابعة الشكاوى المقدّمة ضدّ الشخصيات الرسمية.
مبادرة مضادة للفساد
وفي إنتظار إقرار القانون المعدّل للإثراء غير المشروع، سُجّلت مبادرة قام بها النائب عن كتلة المستقبل محمد قباني، التي تمثلّت برفع السرية المصرفية عن حساباته من دون إدّعاء من أحد، quot;لتفعيل المعركة ضدّ الفسادquot;، بحسب قوله.
وقد رأى قباني عند إطلاقه مبادرته أنّ الفساد quot;ينتشر وأن الفاسدين يزدادون شراهة ووقاحة ويتبادل السياسيون تهم الفساد مع خصومهم دون سواهمquot;، وكذلك فإنّ quot;الكلام عن النزاهة والشفافية لا يتعدّى تسجيل المواقف النظرية والإعلاميةquot;. وهذا ما دفع قباني إلى القيام بمبادرة مبدئية لتقديم quot;نموذج للشفافية المطلوبةquot;.
من جهته، أثنى مخيبر على الخطوة التي قام بها قباني، لكنّه شدّد على أهمية تطوير نظام فعّال للتصريح عن أموال صانعي القرار لكي تكون المبادرة معمّمة وغير مقتصرة على أفراد محدّدين.

لتوحيد الجهود
ستخضع كلّ المبادرات التي إنطلقت في لبنان لمكافحة الفساد منذ العام 2009 وحتّى اليوم لمراجعة منظّمة الأمم المتحدة في العام المقبل، وذلك بحسب ما تنصّ الإتفاقية الدولية لمكافحة الفساد. إلا أنّ السؤال الذي يبقى مطروحاً: هل تكفي الخطوات المتّخذة لإعتبار أنّ لبنان وفى بتعهدّاته؟ الجواب يأتي على لسان الشاعر، الذي يؤكد أنّه حتّى اليوم quot;لم يتمّ التصويت على أي قانون جدّي لمكافحة الفساد في لبنانquot;، مشيرًا الى عدم وجود أي مبادرة جذرية للقضاء على الفساد في الإدارات العامة بكافة مستوياتها.
لكنّ الشاعر لا يتوجّه إلى المسؤولين الرسميين فقط، إنما يدعو القطاع الخاص أيضاً ليؤدي دوره في مكافحة الفساد في القطاع العام، كأن تبادر جمعية المصارف في لبنان إلى المساعدة في إتمام الإصلاحات الإدارية على صعيد الدولة، بدل أن تحذّر السلطات فقط من مغبة المماطلة في الإصلاحات وإلا ستتوقّف قريبًا عن الإكتتاب في سندات الخزينة اللبنانية. فأمام قضية واسعة مثل الفساد، يُصبح توحيد الجهود هو السبيل الوحيد لتحقيق تطوّر إيجابيّ.