لا يهتم الكاتب العراقي أحمد خيري العمري بمآلات الثورة السياسية وحساباتها، ويؤكد في حديث مع quot;إيلافquot; أنّ الثورة لا بد أن تكون فكرية أيضًا، وهو ما ميز الانتفاضة السورية، التي اصطدمت بالفكر التقليدي الديني المؤسساتي والقومي الممانع، وتغلبت عليه.


أحمد خيري العمري كاتب عراقي من مواليد بغداد 1970، ينتمي إلى الأسرة العمرية في الموصل، تخرج طبيب أسنان من جامعة بغداد عام 1993، لكنه عرف ككاتب إسلامي عبر مؤلفات جمعت بين منحى تجديدي في طرح الموضوعات وأسلوب أدبي مميز.

اختير عام 2010 ليكون الشخصية الفكرية التي تكرمها دار الفكر السورية في تقليدها السنوي، وبذلك يكون العمري أصغر المكرمين سناً حيث تم اختياره قبل أن يبلغ الأربعين. تعتبر مؤلفات العمري إضافة كمية وكيفية لفكر النهضة الذي يعتبر مالك بن نبي من أهم رواده. وتمكن من حمل خطاب النهضة إلى فئة أوسع من الفئة التي توجه لها مالك بن نبي بسبب لغته المميزة وبيانه الواضح، إضافة إلى أن اعتماده على التأصيل القرآني للنهضة جعل من أفكاره أكثر قبولاً.

ينتقد العمري ما يسميه المؤسسة الدينية التقليدية، التي يرى أنها تمثل إرثاً ضخماً يعود لتاريخ ما بعد الخلافة الراشدة، وقد اختلط بالموروث الشعبي وغير الديني، وكذلك بالجهات الرسمية والسياسية، وهي تنوب عن الإسلام رسمياً وفكرياً وتحتمي بنصوصه رغم أن كثيراً من أفكارها -حسب العمري- تناقض المفاهيم الإسلامية الأصيلة. وقد خصص جزءاً من مقالاته لانتقاد من يسميهم quot;أدعياء التجديدquot;.

من وجهة نظرك، ما تقييمكم لما يجري في سوريا، وما هي مآلاته أيضاً؟

ما يجري في سوريا -دون أي شك- ثورة شعب ضد نظام لا تستوعب وحشيته الكلمات. بالنسبة لي، الثورة كي تكون ثورة، لا بد أن تكون ثورة فكرية ايضا. وهذا هو الجانب الذي ميز الثورة السورية برأيي (بالإضافة إلى جوانب أخرى)، حيث قدمت هذه الثورة الصدام المباشر مع الفكر التقليدي في شقيه (الديني المؤسساتي والقومي الممانع شعاراتياً دون أي إنجاز يذكر).

قوة النظام السوري لم تكن فقط في أدوات بطشه ومن يساعده من دول مثل إيران وروسيا والصين.. بل أيضا في العقل الجمعي الذي تعود لقرون على الخضوع للظالم ومسايرته. الثورة في أساسها هي ثورة ضد هذا العقل الجمعي وحدوث مخاض جديد له.

مآلات الثورة السياسية لا تهمني كثيرا.. السياسة عابرة.. كثيرة الأقنعة كثيرة الشعارات، وحساباتها مختلفة... مآلاتها التي تبقى، التي تؤثر في أفكار ومفاهيم وقيم الناس هي التي تهمني. مآلاتها في quot;العقل الجمعيquot; هي المجال الذي أعتقد أنه الأولى بالدراسة والرصد... وأيضا بمحاولة التأثير.

هل تعتقد أن ما يجري في سوريا والمنطقة من رياح تغيير ضمن إطار ما بات يعرف بالربيع العربي سوف يترك أثره في تغيير طرق وأساليب التفكير في ما يتعلق بمركز الإنسان وموقعه في صناعة الحدث اليومي الخاص به؟

مجرد معرفة الفرد العربي أنه لم يعد quot;الكم المهملquot;، الصفر على الشمال السابق، سيحدث تغييراً في رؤيته لذاته ولدوره في العالم. توقعاته من نفسه ستكون مختلفة، وبالتالي كل شيء آخر. هل سيحدث هذا بسهولة؟ لا اعتقد. بل سيحدث بسلسلة من التفاعلات المتتابعة التي لا بد أن تؤصل وتجد لها في الرصيد التاريخي والروحي للأمة ما يكون لها معينا وهاديا في عملية التفاعل هذه.

سيستغرق الأمر وقتا طويلا، وقد تكون هناك فترات من عدم الاستقرار، والمد والجزر.. وحتى الانتكاسات، لكن هذا كله طبيعي، وهو جزء من quot;قدر المرحلةquot; وحتميتها، إن جاز لنا التسمية.

ما تقييمكم لما يجري في العالم العربي من حراكات شعبية، وهل بات على الشعوب العربية فعلاً أن تؤمن بقدرتها على صناعة التغيير ورسم المستقبل؟

الحراكات الشعبية مختلفة من دولة لأخرى، بعض الدول لا يمكن لحراك شعبي أن يحدث فيها دون أن تكون هناك ثورة، بعض الدول يمكن لحراك شعبي فيها أن يفرض مطالب إصلاح دون مواجهات موجعة عنيفة.

وبعض الدول لا يمكن لإصلاح أن يحدث فيها دون أن يكون هناك حرب (كما في سوريا وليبيا)... علينا أن نعترف أن الحدود المصطنعة قد أنتجت ظروفا مختلفة، وأن وضع الشعوب العربية، بالذات رضاها عن أنظمتها، متفاوت لأسباب تتعلق غالبا بالمستوى المعيشي وإحساس الفرد بكرامته في وطنه. وهو ما لم تستو الأنظمة فيه. بل إني اعتقد جازما أن وجود بلدان عربية يتمتع فيها المواطن بمستوى دخل مرتفع وتقدم فيها quot;خدماتquot; جيدة للجميع، أعتقد أن هذا كان رافدا للشعور بالنقمة على الأنظمة الفاشلة في تقديم ولو مستوى مقارب في الدول الأخرى.

كلاجئ عراقي عاش في سوريا لفترة قبل أن يغادرها، ما هي انطباعاتكم عن الشعب السوري والبلد بشكل عام، وهل تعتقد أنه يتعرض لمؤامرة حقيقية بالفعل ضده بالذات؟

من الصعب جدا تلخيص شعب عريق كالشعب السوري بكلمات عابرة. شخصيا أجد بين الشعبين العراقي والسوري الكثير من الامتدادات المتداخلة ونقاط الالتقاء، وكذلك نقاط المفارقة والاختلاف. كذلك اؤمن أن قضيتنا الحالية واحدة، وأن مفاتيح بغداد في أسوار دمشق. لن يكون هذا فوريا ولا سريعا. لكن التغيير في دمشق سيفتح المجال أمام تغيرات عميقة في العراق.

أرى شخصيا أن الشعوب العربية خاصة في الدول العربية القديمة quot;إن جاز التعبيرquot; (مصر وسوريا والعراق) والتي تشاركت بالعراقة والعمق التاريخيين، وابتليت بالدكتاتوريات العسكرية وشعارات الاشتراكية والوحدة، هذه الشعوب تعرضت لعملية تخريب ممنهجة تتشابه جدا في هذه الدول (بالاضافة إلى ليبيا)، زادت هذه العملية من وبال إرث عصور الانحطاط التاريخي وزادت العقل الجمعي تشوهات ومعوقات.
رغم كل ذلك، لا يزال في هذه الشعوب، ومنها الشعب السوري، بقية خير تتحدى كل إرث الشر والسلبية.

يحمل الشعب السوري بالذات شعورا متفردا بإيمانه بذاته أكثر من بقية العرب. ما تواتر من أحاديث في فضائل الشام عموما، أسكن السوريين -خاصة- بهاجس عميق بفضائل كامنة فيهم. يمكن لهذا الهاجس أن يوظف سلبيا ليتجسد في عنصرية أو مناطقية، ولكن يمكن ايضا أن يوظف إيجابيا ليساهم في تشكيل وعي جديد يطبق هذه الفضائل لينال استحقاق ما ورد في الأحاديث.

أشعر شخصيا أن ما تمر به سوريا قد جعل السوريين يعيدون اكتشاف وطنهم وذواتهم وطريقتهم في التدين، وأن المخرج النهائي بعيد المدى سيكون تحقيقا لما ورد في الأحاديث فعليا، وإن كنت اتصور -وأرجو أن أكون مخطئا- أنه ستكون فترة حرجة لوقت ما.

هل هناك مؤامرة ضد الشعب السوري؟

بالتأكيد هناك صمت دولي متواطئ لغرض الإبقاء على نظام ولد عبر الصفقات والمساومات وشعارات الممانعة الفارغة من اي مضمون. هل يمكن تسمية هذا الصمت بالمؤامرة؟ لا فرق كبير في التسمية، لكن سفينة النظام الغارقة ستجعل كل -المتآمرين أو الصامتين أو الشركاء في الجريمة- يتخلون عنه في نقطة ما. الثورة لن تؤدي بالضرورة إلى النهضة. الخلط السائد حاليا مضر بالثورة والنهضة معا. الثورة تجعل الطريق مفتوحا أمام النهضة.. وأمام سواها ايضا.