تختلف التقديرات في قياس الضرر الذي يكون قد لحق بسمعة فرنسا في العالم العربي والإسلامي، بعدما اختارت صحيفة شارلي إيبدو قبل أسابيع أن تعاود الكرة في إثارة مشاعر العالم الإسلامي بنشرها رسومًا مسيئة للرسول، وأن تخلق المتاعب الأمنية والدبلوماسية لباريس، إلا أن هذا لم يمنع الحكومة الفرنسية من أن تؤكد حرصها على ضمان حرية تعبير هذه الجريدة حتى وإن كانت اختلفت معها.


باريس: تجندت الدبلوماسية الفرنسية، بعد قضية رسوم شارلي إيبدو المسيئة للرسول، للعمل على ضمان أمن تمثيلياتها في البلدان الإسلامية، كإجراء احتياطي لأي رد فعل انتقامي تجاهها أو تجاه مواطنيها بسبب تلك الرسوم، إذ أعلنت الخارجية الفرنسية حينها أنه quot;سيتم اغلاق السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية والمدارس في حوالي 20 بلدًا في المنطقةquot;.

لكن الموقف الحكومي الفرنسي أكد على اختلافه مع الخط الذي سارت فيه الصحيفة الفرنسية، من خلال تصريحات واضحة وصريحة لمسؤولين حكوميين، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي أوضح أن نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول في الوضع الراهن يصب الزيت على النار.

لكنه يلمس في الوقت ذاته تمسك باريس بمبدأ حرية التعبير، على الرغم من المبالغة في الاستهزاء بالمشاعر الدينية للآخر، والتي لا يمكن المس بها، كرسالة منه لمن حاولوا أن يجمعوا الحيثيات لمحاكمة شارلي إيبدو أو منعها، مشيرًا في الوقت نفسه إلى امتعاضه من الفيلم الذي كان السباق لتأجيج غضب المسلمين في بقاع العالم، والذي وصفه quot;بالسخيفquot;.

لا للاقتراب من المقدس

في حوار مع quot;إيلافquot;، يشخص الإعلامي والروائي المصري المقيم في السعودية حسين أبو السباع ردود الفعل الشعبية ضد تلك الرسوم في الدول العربية والإسلامية بقوله إن quot;الاقتراب من المقدس هو من الأمور التي يصعب جدًا التنبؤ بمدى تأثيراتها، ولا شك في أن الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لا تثير غضب أي مسلم فحسب، بل غضب أي عاقل، لأن شخصه صلى الله عليه وسلم هو أحب خلق الله إلى الله، وأحب خلق الله إلى الناس، وأي عاقل يعرف أن إثارة المقدس لدى أي طائفة دينية، تؤدي إلى شحنها بالمزيد من الغضبquot;.

ويتحدث أبو السباع عن الأجواء التي سادت حينها: quot;كان الغضب يملأ كل إنسان التقيه، إذ كانت ردود الفعل الشعبية تحمل الكثير من الاحتقان تجاه هذه الرسوم، التي لا تعبر إلا عن حقد واستهانة بأكثر من مليار ونصف مسلم في العالم، في الوقت الذي يحترم فيه المسلم كل العقائد والأديان الأخرى، ولم يحدث أن قام مسلم مثلًا برسم أحد الأنبياء بشكل ساخر، أو ما شابهquot;.

ويتابع في السياق نفسه: quot;هاتفت على الفور أمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي الدكتور محمد البيشاري لاستطلاع رأيه تجاه ما حدث، فقال لي حرفيًا إن هذه التحرشات تحدث عادة قبل موعد الانتخابات الرئاسية، لاستقطاب اليمين المتطرف، الذي هو في الأساس ضد أي مظاهر إسلامية داخل فرنسا، ورفض البيشاري اللجوء إلى العنف في مثل هذه القضايا، لأن هناك قانونًا يجب أن يتم اللجوء إليه مهما كان حجم الجريمةquot;.

جرّ إلى العنف

قد يكون الغرض من مثل هذه الأعمال، بحسب رأي الكثير من المتتبعين، جر فئة من المسلمين إلى العنف، ويرى صاحب رواية حيواناس بهذا الشأن quot;أن من قام ويقوم بمثل هذه التصرفات ذات الطابع السياسي يريد أن يظهر المسلمين بالمظهر الهمجي حين يقوم أحد المسلمين بتفجير مقر صحيفة أو مجلة، أو يستهدف أحد الأشخاصquot;.

الغضب الذي سجله محدثنا في العالم العربي والإسلامي لدى عامة الناس والنخبة المثقفة quot;متفاوت الدرجاتquot;، إذ يوضح أنه quot;كان بالنسبة للعامة رد الفعل يطالب بالمزيد من العنف، أما النخبة المثقفة فكانت لها ردود أفعال أخرى، فالبعض رأى مقاطعة البضائع الفرنسية مثلًا هو نوع من التعبير عن الرفض لما حدث، مثلما سبق مع المنتوجات الدانمركية حين قامت صحيفة يولاندز بوسطن بنشر رسوم مسيئة أيضًا للرسول صلى الله عليه وسلمquot;.

الحرية يجب الا تستبيح المقدسات

أكد هذا الحادث مرة أخرى أن حرية التعبير بالنسبة للعالم العربي والإسلامي لها خصوصيتها التي تراعى فيها الاعتبارات الدينية، ولا يمكن في ظل هذا الواقع إسقاطها بمفهومها المتعارف عليه غربيًا على البلدان العربية والإسلامية. يقول أبو السباع إن quot;حرية التعبير مصطلح مطاط، فهناك فرق كبير بين حرية التعبير وبين إهانة المقدس أو إساءة الأدب، فهل يوجد في العالم الغربي من يجرؤ على رسم السيد المسيح مثلًا في رسوم كاريكاتورية مسيئة، أو نبي الله موسى بنفس الأسلوب، فمفهوم حرية التعبير ظهر لتمرير مثل هذه الإساءات ضد المسلمينquot;.

ويتابع: quot;ثمة أمر آخر، إذا كتبت صحيفة مقالًا أو أجرت تحقيقًا، أو رسم فنان رسمًا ينتقد فيه رئيس دولة أو رئيس وزرائها، أليس من حق هذا الشخص أن يقيم دعوى قضائية ضد المطبوعة، ويطالب بتعويض ضخم؟ فلماذا يستغربون غضب المسلمين وحتى المسيحيين من مثل هذه الإساءات المتعمدة لجس نبض المسلمين، والوازع الديني لديهم؟ فالغرب يهمه جدًا معرفة ذلكquot;.

و يرى ابو السباع أن quot;الحرية في معناها الأخلاقي تعني الإلتزام، فمن المستحيل أن يخرق الأوروبي قانونًا ولا يتم تغريمه، فخرق القانون يأتي وفق حريته، والإلتزام به يأتي وفق حريته أيضًا. ولو علق مدير لوحة إباحية في مكتبه من باب حرية التعبير في أميركا، لأبلغت سكرتيرته عنه الشرطة واتهمته بمحاولة التحرش الجنسي بهاquot;.

فحرية التعبير، بحسب أبو السباع، مصطلح يتم ترويجه الآن للنيل من كل ما هو مقدس، لتحريك الشارع الإسلامي وإظهاره بالمظهر الهمجي الذي يبرر كل الجرائم السياسية التي ترتكب ضد المسلمين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن quot;إيلافquot; حاولت الاتصال بمسؤول تحرير صحيفة شارلي إيبدو، من دون أن توفق.

الإساءة للرموز الدينية وردود الفعل المستنيرة

لا يظن زياد ماجد، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في باريس، أن سمعة فرنسا تأثرت بما نشرته صحيفة شارلي إيبدو في أوساط العالم العربي والإسلامي، لأن الصحيفة quot;لم تنجح في خطف الأضواء كما كانت تتمنى خارج فرنسا، وهذا لحسن الحظ، ومن الجيد أن الدولة الفرنسية وازنت بين احترام حرية الصحافة واستقلاليّتها وبين الحرص على رفض الخفة في التعامل مع موضوع حساس في لحظة سياسية معينة، وهذا على ما أظن جعل الأمر يمرّ مرور الكرامquot;.

ويرجع ماجد، في تصريح لـ quot;إيلافquot;، الخلط الذي يسجله الكثيرون في العالم العربي والإسلامي بين مواقف المؤسسات الخاصة والمؤسسات الحكومية في الغرب، إلى quot;عدم استقلالية وسائل الإعلام ونفوذ السلطات السياسية عليهاquot;، إلا أنه لا ينفي في الوقت ذاته أن في الغرب خلطاً بين الإسلام والتيارات الإسلامية والمفاهيم والممارسات الاجتماعية، إضافة إلى كليشيهات وتعميمات وإسلاموفوبيا غير بسيطة.

الرد اللائق الذي يراه ماجد على مثل هذه المواقف الصحفية من شارلي إيبدو أو غيرها هو quot;التجاهل التام، أو الرد بمقالات على ما يُعدّ إساءة وتزويرًاquot;، لافتًا إلى quot;أن ردود الفعل على الفيلم الأبله كانت جدًا محدودة، أي حوالي تسعة إلى عشرة آلاف متظاهر في 11 بلدًا. لكن العنف المشهدي يثير الاهتمام والتغطية ويصادر المشهد الإعلامي فينسى المشاهد حجمه الهامشي ويظنّه شكل التعبير المعمّم على ثقافة أو منطقةquot;.