طالما شكّل البحث عن وطن بديل باب أمل للبنانيين حين يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة من المشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية. وليس بسيطًا القول إنّ عدد اللبنانيين المهاجرين أربعة أضعاف المقيمين بحسب الأرقام الرسمية، أو إنّ المهاجرين يحوّلون 5.6 مليارات دولار سنويًّا لأهلهم في لبنان. لكنّ حلم اللجوء إلى بلد آخر يصبح شائكًا بسبب فرض الدول المستقطبة إجراءات هجرة أكثر حزمًا، بعد إكتشاف كندا محاولات تلاعب وإحتيال شملت أكثر من أحد عشر ألف شخص بينهم لبنانيون.


بيروت: يجد اللبنانيون الراغبون في الهجرة أنفسهم اليوم أمام قرار مصيريّ، فإمّا البقاء في لبنان ومحاولة التكيّف مع الازمات اليومية أو إتخاذ القرار بالهجرة وعدم النظر إلى الوراء أبدًا. لكن التلاعب بفترة الإقامة الإجبارية التي تسبق الحصول على الجنسية أو التحايل على الدولة المستضيفة من خلال إيهام السلطات بأنّه يقطن فيها ويدفع ضرائبها ويعمل في مؤسساتها، بات شبه مستحيل. وهذا يعني أنّ الحصول على الجنسية يحتّم البقاء في الدولة المستضيفة، مهما طالت فترة الإختبارات وزادت المعاملات العديدة المطلوبة. وأول الدول التي إتخّذت هذا الإجراء الجذريّ والإجباريّ هي كندا لأن quot;الجنسية الكندية ليست للبيعquot;.

إكتشاف مبكر للإحتيال
توضح ريمي لاريفيير، المستشارة الإعلامية في وزارة الجنسية والهجرة الكندية، لـquot;إيلافquot; أنّ التركيز حاليًا ينصبّ على الذين يقضون فترة الإقامة الموقتة في كندا، بإنتظار حصولهم على الجنسية. وهي تشدّد على عدم وجود أي تفرقة بين مقدّمي طلبات الهجرة إلى كندا، لكنّ المحاسبة ستكون مرتبطة بسلوك المهاجرين منذ اللحظة التي يطأون فيها الأراضي الكندية. وهذا ما يساعد على الإكتشاف المبكر لأي محاولة إحتيال، بحسب لاريفيير، ما يسهّل التعامل مع المشكلة بدلًا من أن تصل عمليات الإحتيال إلى الآلاف.
وكما سبق لوزير الهجرة الكندي جايسون كيني أن أوضح، تؤكد لاريفيير على الجدّية التامة في التعامل مع قضايا الإقامة والهجرة، quot;وسيتمّ تطبيق القوانين على كلّ المقيمين من دون تفرقةquot;.
وحين نسأل لاريفيير عن حدود محاسبة الأشخاص الذين يحاولون التحايل على السلطات للحصول على الجنسية، تشير إلى أنّ الأمر لا يتوقّف عند حدود سحب الجنسية إنما يمكن إحالة الشخص إلى شرطة الخيالة الكندية الملكية لمحاكمته جنائيًا.
وتنصح لاريفيير كلّ من يرغب في الهجرة إلى كندا بالإطلاع مسبقًا على كافة الشروط من خلال الدخول إلى الموقع الإلكترونيّ الخاص بالوزارة، بالإضافة إلى التعرّف على حقيقة العيش في كندا لكي يكون جاهزًا للتكيّف.
الجزرة والعصا
ليست كندا وحدها التي تعمد إلى وضع سياسات أكثر حزمًا وإجراءات أكثر صرامة بالنسبة للمهاجرين إليها. فالدنمارك التي تحتضن حوالي 22 ألف لبنانيّ، قد سبق أن أصدرت تعديلات على قانون الهجرة، ليصبح إستقدام الزوجة مثلًا مربوطًا بحسابات النقط التي يحصل عليها المهاجر بتحقيقه متطلّبات التفاعل الإجتماعيّ.
وقد لُقّبت التعديلات الجديدة للقانون بسياسة الجزرة والعصا، لتكون الجزرة مكافأة الذين يستجيبون للتعليمات الدنماركية، بينما العصا جزاء لمن لا يريد الإستجابة.
كذلك الحال في بريطانيا التي يوجد فيها نحو 11 ألف لبنانيّ، إذ يتمّ حاليًا تصعيب شروط الهجرة، من خلال رفع حدّ الدخل السنويّ المطلوب لإستخراج تأشيرة دخول للشريك على سبيل المثال. أمّا في دول أخرى مثل فرنسا والولايات المتحدة، فقضية تسهيل الهجرة أو الحدّ منها مرتبطة بالحزب الذي يحكم وسياساته الخاصة في هذا المجال.
لكن مهما كانت التغيّرات التي تحصل على صعيد إجراءات الهجرة، يؤكد مصدر دبلوماسي لبناني أنّ الدولة اللبنانية لا تتدخّل أبدًا في مثل هذه القضايا، لأنّه من حقّ كلّ دولة أن تقيّم بمعاييرها الخاصة طالبي الهجرة إليها وتحاسبهم في حال أخطأواquot;. والتدخّل يكون فقط حين quot;يتمّ تسجيل إجراء تعسّفي بحقّ المواطنين اللبنانيين المهاجرينquot;.
نحو إجراءات أكثر صرامة
تطال التدابير المتّخذة في الدول المستقطبة المهاجرين اللبنانيين بشكل مباشر، مع إرتفاع أعداد المسافرين منهم سنويًا للبحث عن دولة تحميهم وتؤمن لهم مستوى عيش لائقاً. لكنّ مديرة مركز دراسات الإنتشار اللبنانيّ في جامعة سيّدة اللويزة غيتا حوراني توضّح أنّ quot;هذه الإجراءات تصبّ أولًا في مصلحة الدول التي تتّخذها، ومن الطبيعي أن تؤثر على وضع المهاجرين اللبنانيين وغيرهم، خصوصًا من منهم من دون أوراق قانونية، وأولئك الذين لا يلتزمون بالقوانين المرعية الإجراء في تلك البلدان، أو الذين إستغلّوا سهولة بعض القوانين للإستفادة الشخصية بشكل غير قانونيّquot;.
أمّا اللبنانيون المقيمون في هذه البلدان قانونيًا، فترى حوراني quot;أنّ لا خوف عليهمquot;. وبالنسبة للبنانيين الذين يودّون الهجرة، ترى مديرة المركز أنّ quot;التشدّد يؤثر عليهم، بالإضافة إلى الذين كانوا يستفيدون من بنود جمع الشمل العائلي، لأنّهم سيجدون أنّ الإجراءات أصبحت أكثر حزمًا والشروط أكثر صرامةquot;. وهذا ما يؤثر على فرص العمل أو الدراسة، ما يدفعهم للبقاء في لبنان أو البحث عن وجهة جديدة للهجرة.
وإذا كانت القضية الكندية هي التي أشعلت الشرارة الأساسية للحثّ نحو ضبط الهجرة أكثر فأكثر، تشير حوراني إلى quot;أنّ أي دولة تحترم نفسها لن ترضى أن تستغلّ جنسيتها بشكل فاضحquot;، ما يعني أنّ quot;عهد إستسهال الهجرة إلى كندا ودول مماثلة قد ولّىquot;.
وتذكّر حوراني أيضًا بفضيحة وجود أكثر من 40 ألف مواطن يحملون الجنسية الكندية أثناء حرب تموز 2006، ما استدعى أن تتكبّد كندا أموالًا طائلة لإجلائهم. والآن، وقد أضيفت قضية الإحتيال في ما يخصّ الإقامة، quot;أصبحت الأمور أكثر تعقيدًاquot;.
كما تلفت حوراني إلى أنّه ما إن تتّخذ إحدى الدول المتطوّرة مثل كندا أو الولايات المتحدة أو أستراليا قرارًا صارمًا بشأن الهجرة، حتّى تتبعها مثيلاتها من الدول، ما يعني أنّ فرص الهجرة إلى إحدى هذه البلدان ستكون بالصعوبة نفسها. وهذا لأنّ quot;هذه الدول تعطي قيمة معنوية ووطنية كبيرة لجنسيتها، كما تعتبر مسألة الهجرة من مسائل الأمن في بلادهاquot;.
لا هجرة... لا أمن إنسانيّ
هل يمكن أن نشهد تراجعًا لهجرة اللبنانيين إلى الخارج في ظلّ تطبيق القوانين بشكل حازم في الدول المستقطبة؟ تجيب حوراني بأنّ quot;الدول المتطوّرة بحاجة إلى عمالة وأصحاب مهارات كما إلى عنصر الشباب الذي لديه القدرة على التكاثر الديموغرافيّ، كما أنّ المهاجر بحاجة إلى هذه الدول ليحقّق أهدافه أكان ذلك للحصول على عمل أو الدراسة أو تحسين وضعه الماليّ أو حتّى الرحيل عن وطنه لأسباب سياسية أو إقتصادية أو أمور شخصيةquot;. لهذا السبب، فإنّ quot;الهجرة لن تتراجع عامة بالشكل الجذريّ الذي يتصوّره البعضquot;.
لكنّ حوراني تشدّد على أنّ الهجرة إلى البلدان المتقدّمة سيصعب على بعض الجنسيات، خصوصًا تلك التي قام بعض من حامليها بأعمال غير قانونية.
أمّا النتائج المباشرة التي يمكن أن تنتج عن ذلك، فتلخّصها حوراني بقولها: quot;يواجه اللبنانيون أيضًا صعوبات تضعها بعض دول الخليج عليهم، وهذا ما سيؤدي إلى إرتفاع نسبة البطالة في لبنان وزيادة النقمة بسبب عدم إيجاد فرص عملquot;. وكلّ ذلك سيقود إلى quot;إنعدام الامن الإنسانيquot;، وهي حالة لا ينتج عنها إلا المزيد من النزاعات الداخلية.