لا بد أن تقوى إرادة الحياة دائمًا على الموت، لذا تزوّج منصور وبشرى في المستشفى الذي جمعهما، ليبنيا حياةً رغيدة على أنقاض موت يحاول قتل كل خلية حية في الشعب السوري. فكان العرس زينة ورقصا ووليمة على بطانيات وفرحا غامرا في لحظات من الهدوء النسبي.


عبد الاله مجيد: كثيرًا ما تكون أرض المستشفى ملطخة بالدم. ففي كل يوم، تتبدى أهوال الحرب السورية في أروقته، عندما تزدحم بالرجال والنساء والأطفال الذين يُصابون أو يُقتلون في الاشتباكات المحتدمة منذ ثلاثة اشهر بلا توقف بين قوات النظام السوري ومقاتلي المعارضة في حلب.

ذات ليلة، نُظفت أرض المستشفى استعدادًا لمناسبة خاصة. وبدلًا من النحيب واصوات الاستغاثة، تحول المكان حلبة رقص ولهو، واستراح المستشفى قليلًا من الألم والإعياء، احتفاءً بقران اثنين من كوادره.

إلتقى زكريا منصور الحجي عروسه بشرى في هذا المستشفى قبل شهرين، وعقدا خطبتهما منذ اسبوعين. وقرر زكريا وبشرى أن يتزوجا في قرية خارج حلب. ومساء السبت في السابع والعشرين من تشرين الأول (اكتوبر)، أقام العريس ومجموعة من الأطباء والممرضين والموظفين عرسًا، فرقصوا وغنوا سارقين بضع ساعات من الهدوء النسبي، الذي اتاح الابتسام والضحك في مكان مسكون بالفجيعة والحزن.

عرس ووليمة
quot;لا نستطيع أن ننسى ألمنا، لكن علينا ان نصنع سعادتنا، وأن نواصل البحث عن سعادتناquot;، كما قال حسن مقسومة، موظف استعلامات المستشفى، فيما راح اصدقاء العريس يجردونه من ملابس العمل ويُلبسونه، وراء مكتب الاستعلامات، بزة جديدة للمناسبة كما تقتضي التقاليد. عادة، يجلس مقسومة وراء مكتبه يتابع تدفق الجرحى والقتلى، لكنه قال لصحيفة كريستيان ساينس مونتر: quot;أسعد اللحظات هي اللحظات التي نجعلها سعيدةquot;.

في الخارج كانت اصوات الحرب تتردد في الشوارع المظلمة. وفي داخل المستشفى، بدأ العاملون، الذين كانوا يرتدون ملابس العمل والمعاطف البيضاء، الاحتفال بالتجمع حول وجبة من الكباب والخبز والسلطة والفاكهة، وضعت كلها على بطانيات في الرواق خارج وحدة العناية المركزة ذات الغرفة الواحدة.

نزل العريس إلى البهو وسط زغاريد الأصدقاء والزملاء، مجللًا برغوة احتفالية رشها أحدهم من علبة بخاخ. وعندما أخفى العازبون من اصدقاء العريس سرواله كما هي العادة في حفلات الزفاف الحلبية، رفع مكبر المستشفى يده وقد بدا الحرج على ملامحه، وتوعد مازحًا بصب لعناته عليهم بالعربية والانكليزية والفرنسية والكردية إذا لم يعيدوا له سرواله.

الفرح من الفاجعة
يعمل العريس الحجي، وهو شاب نحيف طويل القامة، موظفًا إداريًا في المستشفى. لكن زوجته بشرى، وهي مهندسة تطوعت للعمل ممرضة في المستشفى بعد اندلاع الانتفاضة، لم تكن معه في الحفلة. وطلب الأطباء من الصحافيين ألا ينشروا اسم المستشفى لأنه كثيرًا ما يكون مستهدفًا بقصف القوات النظامية. وكانت آثار القصف ظاهرة في الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمباني المحيطة وبالطبقات العليا.

يشعر العاملون في المستشفى، مثلهم مثل سكان حلب، بالانهاك جراء نزاع تسبب بدمار المدينة وتقسيمها وموت الكثير من اهلها وتهجير آلاف آخرين إلى الريف أو دول الجوار.

وكان المستشفى استقبل في وقت سابق من يوم العرس خمس جثث. وفي يوم سابق، جاء احدهم حاملًا جثة ظلت تتفسخ طيلة شهر من دون ان يتمكن الأهالي من نقلها بسبب القتال. وليلة الحفلة اخترقت مكان الحفلة في البهو بضع حالات، لكنها لم تكن عاجلة.

قال طبيب قسم الطوارئ عثمان الحاج عثمان، ذو المعطف الأبيض والحذاء الملطخ بالدم الجاف: quot;نحن نصنع الفرح من الفاجعةquot; رافعًا صوته فوق أغاني المحتفلين. ثم توقف لفحص رسغ صبي دخل البهو طالبًا العلاج.

وتابع عثمان: quot;سنواصل حياتنا، ولا شيء سيوقفنا. سنحاول ان نبني مستقبلًا أفضل لهؤلاء الأطفالquot;، مشيرًا إلى ابنه الصغير الذي اشرأب بعنقه لرؤية الحفلة.

إسمع كلام حماتك!
رقص العريس مع أصدقائه، ثم حملوه على اكتافهم. ورفع عاليًا رشاشي كلاشنكوف، فيما كان المحتفلون ينشدون اغاني العرس ممزوجة بهتاف quot;الشعب يريد اسقاط النظامquot;، الذي أصبح لازمة يرددها المحتجون في انتفاضات الربيع العربي.

توجّه مقاتل من المشاركين في الحفلة إلى الخارج لاطلاق رشقة احتفالية في الهواء، لكن حراس المستشفى أوقفوه. وقال احد الرجال: quot;لطيف أن نرى عرسًا في هذه الحرب... أليس كذلك؟quot;.

حمل رجل آخر مكبرًا، ثم بدأ يغني ما تيسر له من أغاني الأفراح، بما في ذلك اغنية طريفة تقول للعريس أن يسمع كلام حماته إذا أراد ان يكون سعيدًا في زواجه.

تشابكت أذرع الرجال في دبكة سورية صورتها النساء بهواتفهن الخلوية، وبدأ رجل النقر على طبلة، فوضع المحتلفون اكوابهم البلاستيكية من المشروبات الغازية المحلاة والبيبسي للتصفيق على ايقاع الطبلة.

وعندما بدأت الحلفة تقترب من نهايتها، قال العريس quot;نريد ان نصنع السعادة وسط الموتquot;. وحمد الله على يوم فرحه ولحظات السعادة التي غمرت كل من حوله. وقال quot;فقدنا كثيرين، وأنا سعيد الليلة بسعادة الموجودينquot;.