أصبح تسوّل وعمالة الأطفال ظاهرة لافتة في كل مدن العراق بلا استثناء، لا تخلو منها الطرقات والأحياء الصناعية والساحات العامة. وبحسب التربوي سعد القريشي، فقد ازداد عدد الأطفال الأميين في العراق بشكل لم يسبق له مثيل منذ نحو ثلاثة عقود. وتجد في ساحات وطرقات المدن ومراكزها التجارية أطفالاً ألفوا العيش على الطرقات، واستقروا فيها، حيث ينامون هناك أيضًا.


وسيم باسم من بغداد: يترك الفتى سعد (11 سنة) البيت يوميًا منذ ساعات الصباح الأولى، ليس بقصد الذهاب إلى المدرسة، بل للعمل في ورشة تصليح سيارات في الحي الصناعي في مدينة الشعلة في بغداد، من أجل توفير تكاليف المعيشة، ورغم أن عمره لا يتعدى الـ12 سنة، إلا أنه تناوب عبر عمره القصير الكثير من المهن المختلفة، بينها عامل في مخبز، وبائع متجول، وحمّال، وأخيرًا عامل في كراج تصليح المركبات، حتى فاته تعلّم القراءة والكتابة.

تقاطعات الشوارع
ويقول الفتى كريم فتحي (12 سنة) إنه يعمل في تقاطعات الشوارع بائعًا للمياه المعبأة والمناديل، منذ الساعة السابعة صباحًا وحتى الثامنة مساء، ثم يعود إلى البيت، حيث تنتظره أمه، بعدما فقد أباه في تفجير سيارة في مدينة الصدر عام 2006.

أطفال متسولون في شوارع العراق

يتجمع حول كريم، وهو يتحدث، أربعة فتيان، كلهم لا يجيدون القراءة والكتابة، بينهم أحمد مصطفى (11سنة) الذي تحدث إلينا وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء، قائلاً إنه يربح في اليوم الواحد ما يعادل الثلاثين دولارًا في أكثر الأحيان، ولا يعتقد أنه في حاجة الى تعلّم القراءة والكتابة.

لكن مصطفى يؤكد أنه يكسب قوت يومه بعرق جبينه، وليس عبر التسول، كما يفعل البعض. وهو ينتقد معظم الأطفال المتسولين قائلاً: يتوجب عليهم أن يعملوا لأن الجِدْية مخجلة وتعبّر عن العجز. ولا يعبأ مصطفى لتركه المدرسة، مؤكدًا أن مستقبله مضمون، فيما إذا تعلم مهنًا حرة، وهو في طريقة إلى تعلم ذلك.

وتشير إحصائيات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية إلى أن أعداد المتسولين تفوق 12 ألف متسول في كل البلاد. ووضعت الوزارة منذ العام 2010 خطة لشمول المتسولين بالمرتبات الشهرية التي تصرفها شبكة الحماية الاجتماعية، لكن ذلك لم يشمل الجميع بحسب أبو حامد (60 سنة) الذي يتسوّل منذ أربع سنوات، ولم تشمله المساعدات الاجتماعية.

ترك الدراسة
يؤكد الباحث الاجتماعي سعد العلواني أن الكثير من الأطفال المتسولين، تركوا المدرسة بتشجيع من أسرهم، بغية المساعدة على تأمين لقمة العيش، لكنّ هناك أطفالاً وفتيانًا آخرين بلا أسر، وجرّتهم الظروف القاسية إلى التسوّل والعمل في مهن شاقة في ظل ظروف عمل سيئة.

ويتحدث الفتى علي سلمان (11 سنة) قائلاً إنه بلا أسرة، وهو يعيش في الكراج نفسه الذي يعمل فيه، حيث يوفر له رب العمل الأكل ومستلزمات المعيشة الأخرى، ويروي أنه كان يعيش في دور الرعاية الاجتماعية، لكنه ملّ الحياة هناك، مفضّلاً العمل الحر والاستقلالية في اتخاذ القرار، مشيرًا إلى أنه يستطيع (كتابة اسمه).

لكنّ الأطفال المتسولين غالبًا ما يكونون هدفًا لمراقبة الشرطة التي تمنعهم من التسول وتطاردهم في الكثير من الاوقات. وبحسب جوان حسن رئيسة لجنة الطفل والمرأة في مجلس محافظة كركوك، فإن اللجنة الامنية في مجلس المحافظة تسعى الى قرار يسمح بسجن المتسولين لمدة 15 يومًا.

عدا الشرطة، فإن الاطفال والفتيان المتسولين يكونون هدفًا سهلاً لعصابات التهريب والمخدرات والسوق السوداء والسرقة، اضافة الى عصابات الارهاب التي سعت عبر سنين الى توظيف الأطفال.

الحرفة أولاً
ويشير حسام علي، المعلم منذ 20 سنة، إلى أن الكثير من التلاميذ يتجهون في عطلة نهاية الاسبوع وفي العطل الصيفية الطويلة الى ورش العمل، ورغم أن هذه حالة ايجابية، لكن الناحية السلبية فيها أن البعض يستمر في عمله حتى في اوقات الدراسة، مما يشكل عبئًا اضافيًا على الطالب ويعرقل اداءه في الدراسة.

ولايزال بعض الاباء يفضلون أن يتعلم أبناءهم حرفة بدلاً من التعليم الدراسي، وتنتشر هذه الظاهرة بصورة خاصة بين الأباء الأميين. وبسبب ذلك انتشرت الأمية بشكل غير مسبوق بين الاطفال والفتيان، بعدما كانت تتركز بشكل واسع بين الكبار في السن.

2.5 مليون أميّ
تقول احصائيات وزارة التربية في عام 2012 أن نسبة الأميين في العراق وصلت الى ستة ملايين أمي، مشيرة الى ان بغداد تتصدر المحافظات العراقية بنسبة 2.5 مليون أميّ، ومن ثم السليمانية وذي قار.

من جانبه يرى الباحث الاجتماعي وليد الربيعي أن معظم الأطفال المتسولين الأميين هم من ابناء الطبقات الفقيرة أو من الايتام أو من الأسر المفككة اجتماعيًا، حيث تضمحل رعاية الأبوين، ما يصبح متاحًا للطفل أن يفعل ما يشاء. ويتابع: المشكلة أن هؤلاء ممن دون الـ15 من العمر لا يشملهم قانون محو الأمية، الذي حدد المشمولين من أعمار 15 سنة وما فوق من الذين لا يجيدون القراءة والكتابة.

لكن الملفت للنظر أن غالبية مدن العراق لا تمتلك احصائية دقيقة عن حجم البطالة بين صفوف الشباب، وكذلك اعداد الفتيان والأطفال المتسولين.
الجدير بالذكر أن لجنة التربية والتعليم في مجلس محافظة كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد) حذرت في الاسبوع الماضي من انتشار ظاهرة التسول في صفوف الصغار في المحافظة.
ويلاحظ الزائر لهذه المدينة الكثير من الصبية الذين ينتشرون في تقاطعات الشوارع الرئيسة، للتسول والاستجداء.

مشروع للتمرد والجريمة
يحذر الباحث الربيعي من أن هؤلاء الاطفال والفتيان يعدون مشروعًا محتملاً للتشرد والاحتضان من قبل عصابات الجريمة المنظمة ومجاميع الارهاب، خصوصًا وأن الكثير من هؤلاء الاطفال يدمنون على المخدرات والمسكرات الاخرى.

ويشير الربيعي الى ضرورة اقامة مشاريع اجتماعية واقتصادية خاصة تنتشل هؤلاء من الواقع المزري الذي يعيشونه عبر اعادة تأهيلهم، وزجهم من جديد في عجلة التعليم والدراسة.

كما يدعو الربيعي الى تقوية دور الاسرة في المجتمع، التي اضمحل دورها في السنوات الاخيرة، بسبب الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق.
من جانبها تشير الناشطة النسوية رياض الالوسي إلى أن طغيان القيم المادية، حال دون إكمال بعض الفتيان والشباب لتعليمهم، اذ ترغب الاسرة في توفير مورد مادي اكثر، عبر عمالة اطفالها، حتى وإن اضطرهم ذلك الى ترك الدراسة.