يرى مراقبون أن ما يحدث في مصر ليس انقلابا عسكريا كما يطلق عليه البعض، وذلك لأن المجلس العسكري هو الممسك بزمام السلطة وبالتالي لم ينقلب على نفسه، مؤكدين أن ما يحدث هو عودة إلى سنوات الخمسينات وسياسة فرض الأحكام العرفية.


كان المصريون خلال الأيام الماضية شهودا على ما أسموه quot;سلسلة من عمليات السطو على السلطةquot; نفذها رجال بملابس عسكرية.وبدأت quot;عمليات السطوquot; أولا بإعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة العودة عمليا الى الأحكام العرفية. ثم قررت المحكمة الدستورية التي لاحظ مراقبون أنها معبّأة بقضاة معينين في عهد مبارك ، حلّ مجلس النواب لتلغي بجرة قلم اول برلمان منتخب ديمقراطيا في مصر منذ عقود.

المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري

ولكن الخطوة الأكثر جسارة أقدم عليها العسكر بعد دورة الاعادة في الانتخابات الرئاسية يوم الأحد الماضي،اذ أصدروا الاعلان الدستوري المكمل مانحين أنفسهم سلطات كاسحة وفي الوقت نفسه مجردين الرئيس من سلطات مهمة.

وبذلك يكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة أقدم على تعزيز موقعه في اللحظة ذاتها التي بدأ فيها المصريون يعقدون الآمال على عودة بلده الى حكومة مدنية.

وانطلقت حملة من الإدانات ضد هذه الاجراءات شارك فيها خصوم وقادة منظمات مدنية وسياسيون معارضون بينهم قادة الاخوان المسلمين واصفين خطوات العسكر بأنها انقلاب عسكري.

ولكن الباحث وليام دوبسن مؤلف كتاب quot;منحنى تعلم الدكتاتور: داخل المعركة العالمية من اجل الديمقراطيةquot;، لاحظ في صحيفة فايننشيال تايمز ان وصف حركة العسكر بالانقلاب ليس وصفا دقيقا مشيرا الى ان على الجيش ان ينتزع السلطة من طرف آخر لتكون حركته انقلابا ولكن هذا ليس ما حدث في مصر الاسبوع الماضي.فالجيش كان دائما هو الذي يمسك مقاليد السلطة.

وإذا كانت هناك يافطة تعبر باختصار عن طابع نظام مبارك قبل سقوطه فهي أن نظامه كان quot;دكتاتورية عسكريةquot;.وبالطبع كان هناك رئيس جمهورية وبرلمان ومحاكم وحزب حاكم وغير ذلك من مظاهر الديمقراطية. ولكن الجيش المصري كان دائما العمود الفقري لنظام الحكم.

وكان الجيش ايضا المؤسسة الوحيدة عمليا التي تعمل في البلد. فعندما احتاجت مصر الى بناء ملاعب لاستضافة بطولة كأس الأمم الأفريقية عام 2006 كان الجيش المصري هو الذي تولّى إنشاءها. وعندما حدثت أزمة خبز في عام 2008 قامت أفران الجيش بإنتاج مزيد من الأرغفة.

وإذا اقتضت الحاجة عمل أي شيء فإن ذوي البزات الزيتونية هم الذين يتكفلون به.وسُمح للقوات المسلحة بوصفها المؤسسة الأوسع نفوذا في مصر ببناء امبراطورية عملاقة من المصالح والأعمال.

يشكل الجيش ركنا اساسيا في أي نظام سياسي سلطوي. ويصح هذا على الصين وروسيا وفنزويلا وبلدان عديدة أخرى. ولكن ما من نظام سلطوي تقريبا جيشه مؤسسة لا تدانيها مؤسسة أخرى كما في مصر الحديثة، بحسب الباحث دوبسن.
ولهذا السبب على وجه التحديد اختُزلت تكهنات المصريين بشأن خليفة مبارك في ايامه الأخيرة الى خيارين هما نجله جمال أو ضابط عسكري كبير ولا سيما ان جميع رؤساء مصر الحديثة كانوا من اصول عسكرية.وعندما احتشد المصريون في ميدان التحرير عام 2011 فانهم لم يصنعوا ثورة بل رأى الجيش في تلك الأحداث فرصة اغتنمها لحل مسألة التوريث، على حد تعبير الباحث دوبسن.

في غضون ذلك دفعت أحداث الايام الأخيرة مصر الى وضع لم تعرفه منذ عام 1952 حين خلعت حركة الضباط الأحرار الملك فاروق. ففي ذلك العام ، كما الآن ، وجدت مصر نفسها محكومة بسلطة عسكرية مع تنحية جميع المؤسسات الأخرى جانبا. ولكن هناك فارق بالغ الأهمية. ورغم وصف المصريين حركة 1952 بالثورة فانها كانت انقلابا عسكريا تقليديا من تخطيط مجموعة صغيرة من الضباط.

صحيح انه كان أرقى انقلاب في العالم. إذ أقام الجيش حفلة توديع للملك المخلوع وغادر مبحرا بيخته الملكي وأمضى بقية ايامه في جزيرة كابري الايطالية. ولكن الشعب لم يكن له دور في تلك الأحداث على النقيض من احداث اليوم.إذ قد تكون مصر دولة بلا مؤسسات يُعتد بها الى جانب المؤسسة العسكرية ولكنّ المصريين أنفسهم هم اللاعبون الكبار على مسرح الأحداث اليوم. والتحدي الذي سيواجه العسكر في الأشهر المقبلة هو ايجاد سبل تهدئة الشعب نفسه.

لذا لم يمكن من المستغرب ان يسارع العسكر الى عقد مؤتمر صحافي لطمأنة هؤلاء المصريين انفسهم الى ان نيات المجلس العسكري ما زالت صادقة بشأن تسليم السلطة.ولكن بعد 16 شهرا على اسقاط مبارك تبدو كلمات العسكر كلمات فارغة على حد وصف الباحث وليام دوبسن مضيفا ان هدف العسكر ليس بناء مصر ديمقراطية بقدر ما هو تقديم نسخة محسنة ومنقحة من النظام القديم الذي خدمهم على أفضل وجه.

وكان وفد من المجلس الأعلى للقوات المسلحة زار واشنطن في تموز(يوليو) العام الماضي. وفي جلسة خاصة، وجّه اللواء محمد العسار رسالة مألوفة قائلا كما تنقل عنه صحيفة فايننشيال تايمز quot;أرجوكم أن تثقوا بأننا لسنا امتدادا للنظام السابق. فنحن ملتزمون التزاما تاما بحقوق الانسان وحق الشعب المصري في العيش الكريم. أرجوكم أن تثقوا بي في هذا الشأنquot;.لم يكن العسكر جديرين بثقة أحد وقتذاك وهم ليسوا جديرين بالثقة الآن.والفارق الوحيد هو ان هذا بات الآن غنيا عن البيان ، بحسب الباحث وليام دوبسن.