أموالأسرة مباركالمسروقة لم تجمد في بريطانيا رغم العقوبات الدولية المفروضة

بريطانيا عرضة لسيل من الانتقادات والاتهامات بعدما سمحت ببقاء أموال وشركات ومنازل تملكها عائلة مبارك وأركان من النظام السابق، ما دفع البعض إلى القول إنّ الحكومة البريطانية مهتمة بالمال والأعمال أكثر من اهتمامها بتطبيق العدالة.


لندن: سمحت الحكومة البريطانية لعدد من أركان النظام المصري السابق بالاحتفاظ بممتلكات ومصالح تبلغ قيمتها ملايين الجنيهات الاسترلينية في بريطانيا رغم العقوبات المتفق عليها دوليا ضد هؤلاء المسؤولين.

وأدى هذا الوضع إلى اتهامات تقول إن هناك وزراء يهمهم الحفاظ على العلاقة الودية لمركز المال والأعمال في لندن، مع القطاع المالي العربي أكثر من حرصهم على ضمان العدالة.

وكان حكم بالسجن مدى الحياة صدر على الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في حزيران(يونيو) الماضي. وكشف تحقيق أجرته قناة البي بي سي على امتداد ستة اشهر، ونُشرت نتائجه بالاتفاق مع صحيفتي الغارديان البريطانية والحياة السعودية في لندن، ان اصولا كبيرة ترتبط بأفراد أسرة مبارك وشركائهم لم تجمد.

ومن بين هذه الأصول والممتلكات بيوت فاخرة في منطقتي تشيلس ونايتسبريدج الراقيتين في لندن، وشركات مسجلة في وسط المدينة. وسُمح لأحد أقطاب نظام مبارك بفتح شركة في بريطانيا خلال الأشهر الأخيرة رغم إدراج إسمه على قائمة المصريين المشمولين بالعقوبات لارتباطهم بأموال مختلسة وخضوعهم لإجراءات تجميد الأرصدة.

وأعلنت وزارة الخارجية البريطانية ردا على نتائج التحقيق انها تعمل بصورة وثيقة مع نظيرتها المصرية لتعقب أرصدة نظام مبارك. وقالت وزارة الخزانة التي لديها وحدة متخصصة بتنفيذ العقوبات المالية إنها واثقة من عملها حسب الأصول المرعية. وأشارت الوزارتان إلى أنهما لا تستطيعان التعليق على حالات منفردة.

وتوقع مراقبون أن تحرج نتائج التحقيق وزراء بريطانيين اعربوا في السابق عن دعمهم للانتفاضات العربية وتعهدوا اتخاذ اجراءات quot;حاسمةquot; لملاحقة الأموال غير المشروعة التي أُخرجت من مصر، وإعادتها إلى أصحابها المصريين.

ولكن بعد ثمانية عشر شهرا على سقوط مبارك، أظهرت بيانات مكتب تسجيل الشركات ومكتب تسجيل الأراضي المتاحة لإطلاع الجمهور عليها، أن قسما على الأقل من ثروات مسؤولين في النظام السابق أُدينوا باختلاس أموال من مصر ما زال في بريطانيا ولم تمتد اليه يد السلطات البريطانية.

وتزداد المشكلة تعقيدا بغياب الإرادة السياسية في مصر عندما يتعلق الأمر بملاحقة أصول اركان النظام السابق، وهو وضع يعزوه خبراء إلى أن لاعبين كبارا من عهد مبارك ما زالوا يتمتعون بنفوذ كبير، بحسب صحيفة الغارديان.

وتتابع الحكومة المصرية حاليا دعوى قانونية على وزارة الخزانة البريطانية لمماطلتها في إعادة اصول.

وقال محمد محسوب وزير الشؤون القانونية المصري الجديد الذي قاد التحقيقات في quot;مليارات مصر المسروقةquot; ان هذه quot;جريمة جماعية من جانب الحكومتين البريطانية والمصريةquot;. واضاف محسوب quot;ان بريطانيا من اسوأ دول العالم حين يتعلق الأمر بتعقب الأصول المصرية في الخارج وتجميدهاquot;.

وأوضح محسوب ان البريطانيين يقولون إنهم يحتاجون إلى طلبات رسمية من الحكومة المصرية، قبل أن يتخذوا أي إجراء وإلى أن يحدث ذلك فإنهم يسمحون بحركة الأصول بحرية، وغلق حسابات معينة لشركات خارج الحدود البريطانية وإعادة استثمارها في أماكن أخرى بأسماء مختلفة لمنع استعادتها واصفا ذلك بأنه quot;تربح سياسي محض، لا يعكس مفهوم العدالة والديمقراطية البريطانية الذي ندرسه في الجامعات المصريةquot;.

واتهم محسوب بريطانيا باستنزاف الأصول المصرية على حساب مصالح الشعب المصري والدولة المصرية.

وكان برنامج الانفتاح واقتصاد السوق الذي نفذه نظام مبارك في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أسفر عن بيع شركات وأراض مملوكة للقطاع العام إلى رجال أعمال بوتائر مذهلة. وجنى quot;حيتانquot; الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، بمن فيهم نجل مبارك وريثه المفترض جمال، ثروات طائلة. وكان الغضب الشعبي على تفشي الفساد إحدى القوى المحركة للثورة المصرية.

وسارع القادة السياسيون البريطانيون إزاء اتساع الانتفاضات العربية إلى الوقوف بجانب ثوراتها. وأعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أن الحكومة البريطانية صديقة الشعب المصري وهي مستعدة للمساعدة بأي طريقة ممكنة.
وبعد ثلاثة أيام على سقوط مبارك طلبت الحكومة الانتقالية في القاهرة من السلطات الغربية تجميد أرصدة العديد من مسؤولي النظام السابق المشتبه بسرقتهم المال العام واخفائه بشراء عقارات وإنشاء شركات. وتعهد وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ امام مجلس العموم بتحرك quot;حازم وحاسم وسريعquot; لإعادة المال المصري المختلس إلى أصحابه الشرعيين.

وفي حين أن سويسرا أقدمت على تجميد أصول النظام المصري السابق في غضون نصف ساعة من سقوط مبارك، فإن بريطانيا احتاجت إلى 37 يوما قبل ان تحذو حذوها، وهو تأخير يقول منتقدون إنه أتاح تصفية الأصول ونقل الأموال غير المشروعة خارج بريطانيا. وفي حين أن سويسرا جمدت نحو 500 مليون جنيه استرليني من الأصول المصرية، فان بريطانيا جمدت أقل من خمس هذا الرقم ولم تعد ايّ من الأموال المجمدة إلى مصر.

وقال البروفيسور مارك بيث الذي يعتبر من أبرز الخبراء المختصين باسترداد الأموال المنقولة عبر الحدود، إن ما كشفه التحقيق عن موقف بريطانيا ليس مستغربا. وقال بيث للبي بي سي إنه كمواطن يستشيط غضبا، ولكنه كمحام لا يستغرب ذلك لأنه ليس متأكدا من أن القواعد المتعلقة بمن يسمون quot;الأشخاص المكشوفين سياسياquot; تُطبق تطبيقا كاملا في بريطانيا، وأن الدولة لا تبدي حرصا على المساعدة في هذا الشأن.

وأضاف البروفيسور بيث، أن لمصر علاقة قوية مع الغرب وعلاقة قوية تماما مع بريطانيا، وان ما يتبادر إلى ذهنه quot;بصفة خاصة مصارف عربية من كل صنف وفروعها في مركز المال والأعمال في بريطانيا quot;الستيquot;، وإذا مشيت في الستي يمكنك ان تراها، وأنا متأكد من أن أعوان أسرة مبارك من المصريين ومسؤولي ذلك النظام، كانوا يشعرون بالارتياح التام إلى ايداع اموالهم في بريطانياquot;. وأشار إلى ان من الأسلم إيداع المال لدى أصدقاء في مصرف عربي في الستي.

وقال البروفيسور بيث، إنه بالنسبة إلى الحكومة البريطانية فإن quot;جنرالات الجيش المصري ما زالوا على الأرجح صمام أمان في حين أن البرلمان الجديد، والرئيس الجديد يُنظر اليهما بتحفظ. وأتوقع أن تكون بريطانيا حذرة، كي لا تلاحق فلول النظام السابق ملاحقة جديةquot;.

شركة ميدانفيست للاستثمارات في لندن التي كان جمال مديرها لم تُجمد قط

وتبين السجلات الرسمية وجود أصول في بريطانيا غير مجمدة ترتبط بمسؤولين في نظام مبارك يقضي بعضهم أحكاما بالسجن الآن بتهمة الاحتيال الاقتصادي. وظهر إسم جمال مبارك على قائمة نشرتها وزارة الخزانة في آذار (مارس) 2011 مع 10 مصريين آخرين جُمدت اصولهم.

ولكن شركة ميدانفيست للاستثمارات في لندن التي كان جمال مديرها لم تُجمد قط. وتنحى جمال لاحقا عن منصب مدير الشركة، وفي شباط (فبراير) الماضي صُفيت ميدانفيست اختياريا بهدوء، الأمر الذي أتاح امكانية نقل أصولها إلى الخارج بعيدا عن متناول المحققين.

كما يرتبط اسم جمال مبارك بمنزل في لندن قيمته 10 ملايين جنيه استرليني في منطقة نايتسبريدج قرب مخازن هارودز. ويرد اسم المنزل بوصفه عنوان جمال مبارك في وثائق شركة ميدانفيست، وبوصفه منزل أسرة مبارك على شهادة ميلاد ابنة جمال التي ولدت في لندن عام 2010.

ولكن المنزل لم يُجمد لغرض التحقيق، وجمال مسجون الآن في القاهرة بانتظار صدور الحكم عليه في قضية تبييض اموال.

وسُمح لشخص آخر ورد اسمه على القائمة السوداء لوزارة الخزانة بفتح مشروع تجاري جديد في بريطانيا. فإن نجلاء الجزايرلي زوجة وزير الاسكان والسياحة السابق احمد المغربي، الذي يقضي الآن حكما بالسجن خمس سنوات في مصر بتهمة الفساد، تمكنت من تسجيل شركة باسم نجلاء في تشرين الثاني (نوفمبر) بعد نحو ثمانية اشهر على تعهد بريطانيا بتجميد اصولها. وما زال مقر الشركة المسجل في منطقة تشيلسي غير مجمد. وقال المحامي تيم دانيل المختص باسترداد الأصول إنه من غير المعهود أن يتمكن شخص اسمه مدرج على قائمة المشمولين بعقوبات، من ممارسة نشاط تجاري في بريطانيا بهذه الطريقة.

ويؤكد المستشار عاصم الجوهري، مساعد وزير العدل لشؤون الكسب غير المشروع ورئيس لجنة استرداد الأموال المهربة للخارج، إنه واجه الحكومة البريطانية بشأن تقاعسها عن التحرك، ولكن قيل له إن المحققين البريطانيين يحتاجون إلى مزيد من المعلومات. وأكد المستشار الجوهري quot;أن الحكومة البريطانية ملزمة بقوة القانون بالتعاون معنا ولكنها لا تريد أن تبذل أي مجهود لمساعدتنا على استرداد الأموالquot;.

وأضاف quot;ان كل ما تقوله بريطانيا هو أعطونا أدلة. فهل هذا من المعقول؟quot;
وتابع quot;نحن في مصر. كيف نصل إلى الأموال في بريطانيا؟ نحن نعتقد أن بريطانيا انتهكت القانون الدولي واتفاقيات مكافحة الفسادquot;.

ونفى اليتسير بيرت، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن بريطانيا تتقاعس عن ملاحقة الأموال المصرية المسروقة واستردادها. وقال quot;نحن نعمل بصورة وثيقة مع السلطات المصرية للكشف عن الأصول التي قرر القضاء أنها مسروقة، وتجميدهاquot;. وأضاف quot;أنه من الضروري أن تكون عملية استعادة الأموال والأصول المسروقة عملية قانونية. إذ ليس بإمكان بريطانيا أن تحرم شخصا ما من أمواله وتعيدها إلى دولة أخرى، دون صدور قرار قضائي بإدانته جنائيا ومصادرة هذه الأصولquot;. وأكد أن بريطانيا تعمل مع السلطات المختصة في مصر لمساعدتها على فهم العملية القانونية، بما في ذلك عن طريق الاتصالات المباشرة بين خبراء البلدين، وتوقيع مذكرة تفاهم لتبادل المعلومات مع وحدة الاستخبارات المالية المصرية وزيادة التعاون بين شرطة البلدين.

وقال وزير العدل في حكومة الظل العمالية اندي سلوتر إن الأدلة التي توصل اليها التحقيق تبين أن الحكومة البريطانية quot;عمليا تغمض عينهاquot; عن الأموال المسروقة من الشعب المصري. وأضاف سلوتر quot;ان 20 دقيقة من عمل المسؤولين كان كافيا للكشف عن أصول كبيرة جدا تعود إلى النظام المصري السابقquot; مشيرا إلى ان بريطانيا كانت مكانا معروفا بتطبيق العدالة الدولية امام مرأى من الجميع quot;وها نحن الآن نغض الطرف عن خروقات من كل صنفquot;.