توعّدت وزارة التربية التونسية تلاميذ رقصوا على وقع هارلم شايك بالملاحقة، وبدأ السلفيون هجماتهم على المعاهد والكليات التي تعلن تنظيمها استعراضات رقص مماثلة، وانفتح تبعًا لذلك سجال إعلامي وسياسي واجتماعي في البلاد ما زال محتدمًا.


تونس: أثارت الصور التي نشرت على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لتلاميذ معهد الإمام مسلم الثانوي في تونس العاصمة وهم يؤدون رقصة هارلم شايك، التي ظهرت في أميركا وانتشرت بسرعة في العالم أجمع، ردود فعل متباينة كانت في أغلبها رافضة لما ظهر من مشاهد مستفزة داخل مؤسسة تربوية، على الرغم من أن فريقًا آخر اعتبر الرقصة تعبيرًا شبابيًا وإبداعًا فنيًا لتجاوز الضغوطات النفسية التي يعيشها المراهقون.

ومنذ ذلك الحين، تضامن العشرات من التلاميذ والطلاب مع زملائهم الملاحقين، وأنجزت عدة معاهد حفلات استعراضية مماثلة تم تصويرها، لكنّ بعضها تم إجهاضها من طرف اسلاميين متشددين يرفضون رقصة هارلم شايك.

سخط على هارلم شايك

أمرت وزارة التربية التونسية يوم 25 شباط (فبراير) الماضي بفتح تحقيق في شريط رقصة هارلم شايك، الذي تم تصويره في إحدى المدارس الثانوية في العاصمة.

وقال وزير التربية عبد اللطيف عبيد: quot;الوزارة فتحت تحقيقًا لا يزال متواصلًا، وستتخذ الإجراءات المناسبةquot;، مضيفًا أنه من المحتمل طرد الطلبة أو إقالة أعضاء الطاقم التربوي المتورطين في إعداد الرقصة.

وشاع شريط على موقع يوتيوب يصور طلبة من ثانوية الإمام مسلم في حي المنزه، ويظهر فيه بعض الطلبة وهم يرقصون مرتدين الشورت، فيما يرتدي آخرون لحى مستعارة وقمصانًا طويلة لتقليد السلفيين المتشددين.

وقال عبيد: quot;ما حدث هو إهانة للرسالة التربوية وكل من ساهم في ذلك سيساءل، والوزارة لا تعارض التنوع الثقافي داخل المؤسسات التربوية مهما كانت طبيعتها، لكنها حريصة على ضمان سير هذه الأنشطة تحت إشراف مسؤولين من داخل المؤسسةquot;.

بدورها، أدانت نقابة التعليم الثانوي رقصة هارلم شايك، واعتبرتها أمرًا لا يمكن قبوله. ومع ذلك، أثار قرار وزير التربية انتقادات واسعة. وأدانت عدة مدونات ومواقع التواصل الاجتماعي موقف الوزير واعتبرته تضييقًا على الحريات. كما تعرض الوزير لانتقادات المدونين وعدة مواقع إعلامية أخرى لتجاهله احتلال السلفيين مؤخرا المدارس عبر أرجاء البلاد.

من أميركا إلى العرب

يوضّح الدكتور محمد الجويلي، المختص في علم الاجتماع، في تصريح لـquot;إيلافquot; أن ظاهرة هارلم شايك التي اجتاحت بعض المعاهد والكليات، واستدعت حالة من الاستنفار على شبكات التواصل الاجتماعي، وردود الفعل الرسميّة من وزارة التربية وغير الرسميّة من أحزاب وجمعيات مدنية وسببت حالة من التجاذبات، وصلت تونس أخيرًا بعد انتشارها في دول العالم بين الشباب، واعتبرت غير محترمة للمؤسسات التربوية.

أثار تدخل وزير التربية في بعض وسائل الإعلام حفيظة بعض رجال السياسة والإعلام، حتى أن مدير قناة نسمة استغرب ردود الفعل على رقصة هارلم شايك معتبرًا أنها عبارة عن تعبير عفوي سلمي ومتحضر بعيدًا عن العنف من شباب مراهقين، quot;فأيّهما أفضل أن يرقصوا أو أن يتعاطوا المخدرات أو يدعوا إلى الجهاد؟quot; مؤكدا أن قناته تساند هؤلاء الشبان وطالبهم بعدم الاعتذار للشعب التونسي.

من ناحيتها، ساندت الممثلة هند صبري عبر صفحتها على موقع فايسبوك هؤلاء التلاميذ الراقصين، وتوجهت إليهم قائلة: quot;أعزائي يسمح لكم بتغيير علم تونس بعلم السلفية الجهادية ويدعونكم للجهاد والعنف والقتل في سوريا ولكم الحق بوضع النقاب أثناء الدرس والامتحانات ولكن ليس لكم الحق في الرقصquot;.

سبيل للابداع

قالت سعاد عبدالرحيم، النائبة في المجلس التأسيسي عن حركة النهضة والتي شارك ابنها ضمن المجموعة الراقصة في معهد الإمام مسلم في تصريح لـquot;إيلافquot; إن quot;الرقصة عالمية وهي طريقة للتعبير والإبداع ولم تحدث تجاوزات خطيرة كممارسة العنفquot;.

وشدّدت على أنها تدين التجاوزات التي حصلت من خلال المشاهد التي استفزت المشاهدين، واعتبرت أنه تم توظيفه سياسيًا، مؤكدة ضرورة إبعاد المؤسسة التربوية على التجاذبات والصراعات السياسية.

أبرز الدكتور محمد الجويلي، أستاذ علم الاجتماع، في تصريح لـquot;إيلافquot; أن هذه الظاهرة هي عبارة عن تقليعات، وهي منتج يأتي عبر شبكات التواصل الاجتماعي يعمّ كل أنحاء العالم. وأضاف: quot;عندما يستقبل شبابنا التونسي مثل هذه الرقصات، فإنه يعيد صياغتها من جديد، حيث تتمّ تونستها بشكل من الأشكال، وفيها بصمات الشباب التونسي الذي يعبّر من خلال هذه الرقصةquot;.

وأشار الجويلي إلى أن هذه التقليعة تعبر عن جملة من الرسائل، quot;ففيها يلبس الشباب ملابس مختلفة وغير تونسية، إلى جانب بعض الإيحاءات الجنسية، وهي بالتالي خلطة من الرسائل المتعددة من بينها أن الشباب الراقص يريد أن ينتهج سلوكًا صادمًا، يتضمن نوعًا من الأصالة والطرافة، وكثيرًا من المشهدية والفرجة، إلى جانب التعبير عن التحدّي، وبالتالي فإن كل سلوك شبابي يتجه أكثر نحو الاستعراض والبروز ولم تعد مثل هذه السلوكيات تقع في كنف السرية كما كانت سابقًاquot;.

وقد قام رجال الأمن يوم الأربعاء بتفريق مجموعة من تلاميذ المعهد الثانوي الطاهر صفر بسوسة باستعمال الغاز المسيل للدموع، بعدما قاموا بهذه الرقصة في فضاء قريب من المستشفى مع إشعال الشماريخ.

الخصوصية التربوية

أوضح الجويلي أن الجانب الثاني لهذه التقليعة يتمثل في الصدمة التي تأتي من أن الأفعال التي يقوم بها الشباب في غير محلها أو سياقها، كالقيام برقصة هارلم شايك في مؤسسة تربوية لا تقبل هذه النوعية من السلوكات.

يضيف: quot;وهذا في الواقع ينبّهنا إلى أن فكرة المؤسسة التربوية لدى الشباب لم تعد بالقيمة التي كانت عليها في السابق، أي هناك رغبة داخلية لدى هؤلاء في تغيير مفهوم المدرسة ومعناهاquot;. وأشار الجويلي إلى أن هذا الواقع يضعنا أمام سؤال رئيس، وهو: quot;إلى أي مدى تبدو المدرسة قادرة على التأقلم مع متطلبات سلوكيات هؤلاء الشباب؟quot;

فسابقًا، كان التلميذ هو الذي يلتزم بقوانين المدرسة. أما الآن، فكأنما هناك عملية شد وجذب بين المؤسسة التربوية والتلاميذ، أي أن هناك صراعا بين تغيير هوية المدرسة وبين المحافظة عليها، فهل ستقبل المدرسة بذلك؟

سلفيون وليبراليون

يوضّح الدكتور الجويلي أن احتجاج البعض يؤكد أن هناك رغبة في إعادة تعريف النواميس التي يجب أن تسود داخل المؤسسة التربوية، هذه المحاولات ليس فقط من طرف الشباب الذين رقصوا رقصة هارلم شايك ولكن أيضا من خلال المجموعات السلفية التي تحرّم مثلا تدريس الفن واللغة الإنكليزية وبعض الأغاني التابعة لها، وتدخلوا كذلك في مسألة اللباس، وبالتالي الكلّ الآن يريد أن يغيّر المنظومة المدرسية كل حسب مرجعيته، لذلك قد نرى في المستقبل تجاذبات بين المجموعات السلفية من جهة والتي تريد شكلا معينا للمؤسسة التربوية ومجموعات شبابية أخرى ليبرالية تريد أن تفرض هي الأخرى مجموعة من القيم والسلوكات الجديدة.. هناك فعلا تجاذبات فكرية وإيديولوجية وسياسية واضحة داخل المؤسسة التربوية.

الوصاية على quot;الأخلاقquot;

أصدر القطب الحداثي الديمقراطي (تحالف لأحزاب يسارية وماركسية) بيانا استنكر فيه طريقة تعامل وزارة التربية مع رقصة quot;هارلم شايكquot; التي ظهرت في عدد من المعاهد التونسية quot;بينما توجد مشاكل أكبر في المؤسسات التربويةquot;، حسب البيان.

وقال quot;القطبquot; في بلاغه: quot;مشاكل المؤسسات التربوية حلت كلها، انتفى العنف بجميع أنواعه، المدارس والمعاهد مؤثثة بالكامل وفي حالة جيدة، الإطارات التربوية كاملة، المنظومة التربوية على أحسن مايرام، وسائل الترفيه متوفرة، لذلك ما كان يحق لتلاميذ معهد quot;الإمام مسلمquot; أن يجتمعوا ليروحوا عن أنفسهم في فضاء مؤسستهم مساء ذات سبت بأداء رقصة وقع فيها بعض التجاوزquot;.

ولم ينف البلاغ وجود بعض التجاوزات لكنه يستنكر طريقة المعالجة بالقول:quot; كان يمكن أن يعالج في إطار مجلس التربية، إلا أن السيد الوزير، وحرصًا منه على الحفاظ على quot;الأخلاقquot; داخل المعاهد، جندت الوزارة يوم أحد (يوم عطلة) ليفتح بحثا ويتخذ الاجراءات الملائمة لذلكquot;.

تعبير أو غربة؟

استنكر محمد أمين الكريفي، رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن التلميذ، التعامل مع رقصة هارلم شايك، مهددا برفع قضية ضدّ وزير التربية. واعتبر البحث الإداري قرارًا غير مسؤول، منددًا في الوقت نفسه quot;بالطريقة غير الحيادية التي تدخل بها وزير التربية، حيث كان من الأجدر عدم تضخيم هذا الحدث، وإن وجدت أخطاء من طرف التلاميذ يمكن تداركها بطريقة توعوية إدارية لا تصل إلى حد طرد التلاميذ من المعهدquot;.

واعتبر الكريفي، في تصريح لـquot;إيلافquot;، أن ما جرى في معهد الإمام مسلم لا يتجاوز كونه عملًا فنيًا نفذه التلاميذ بترخيص من إدارة المعهد ولا يمسّ محتواه من الأخلاق الحميدة أو يخدش الحياءquot;. وأدان الكريفي حملات التشويه التي طالت هذا العمل على المواقع الاجتماعية، متهمًا بعض الجهات بتوظيفه، ومؤكدًا تمسك منظمته بحق التلاميذ في التعبير.

في المقابل، استنكرت جبهة الإصلاح ذات الأصول السلفية في بيانها رقصة هارلم شايك، مؤكدة أنها تدلّ على حجم الغربة التي تعيشها شريحة عريضة من مجتمعنا، quot;كما أنها تدلل على إشكالية الهُوية العربية والإسلامية التي لا تزال مبهمة، وعلى ثقافتنا التي تتفاعل مع التجارب البشرية والحضارات الإنسانية والتي ينبغي أن لا تخرج عن أطر الدين واللغة والتاريخquot;.