يقف لبنان على مفترق طريقين، يؤدي أحدهما إلى حرب جديدة، بينما يوصل الآخر إلى برّ الأمان. إلا أن كليهما يمرّان بمرحلة يطغى عليها التّجييش الطائفي، في غياب للإحساس الحقيقي بالمواطنية.


بيروت: quot;لبنان أكثر من وطن إنّه رسالةquot; لعلّ هذه المقولة التي وصف بها البابا بولس الثّاني لبنان هي خير تعريف له ولهذه الفسيفساء التي تكوّنه، وتتمثّل بوجود 18 طائفة تألّف نسيجه الإجتماعي والثقافي والسّياسي، 17 منها تعدّ من الأقليّات في هذا الشّرق.

ففي وقت يعتبر لبنان نموذجًا للعيش المشترك بين الطّوائف في العالم كلّه، نرى أن مسؤوليه السياسيين والدينيين لا يدركون نعمته، ونرى أن الإحتقان الطائفي يشتدّ أزره في الشارع اللبناني وخصوصًا في الفترة الأخيرة مع اشتداد الخطاب الطائفي وتجييش الناس عاطفيًا خلف زعاماتهم الطائفيّة أو السياسيّة التقليديّة المرتبطة بطوائفهم.

واللّافت أن الزّعماء يتخوّفون علنيًا من هذا الإحتقان والوصول إلى مرحلة ينفجر فيها ولا يعود من الممكن الحدّ منه أو كبته، ونراهم في المقابل يتّبعون سياسة الحقن الطّائفي وتزكية النفوس ما قد يولّد نتائج لا تحمد عقباها.
اليوم وفي الذكرى الثامنة والثلاثين لاندلاع الحرب اللبنانيّة عام 1975، التي بدأت بهدف الحدّ من تفاقم قوّة العنصر الفلسطيني على الدّولة اللبنانيّة وتهديد هيبتها، وتحوّلت لاحقًا إلى صراع متشعّب الأوجه تدخّلت فيه الدول الكبرى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة حتّى اليوم على الساحة اللبنانيّة ولعبت دورًا فاعلاً من خلال استغلال اللاعبين الداخليين، حتّى باتت هذه الأحداث تسمّى بحرب الآخرين على لبنان.

ولكن لا يمكن أن نغفل أن الطائفيّة المغروزة في نفوس اللبنانيين من دون استثناء، حوّلت الحرب إلى أهليّة طائفيّة، وبرزت خلالها أفعال مازال اللبنانيون يتذكّروها اليوم ويخافون العودة إليها كالقتل على الهوية والتهجير والإعتداء على الرموز الدينيّة، وكان لها دور فاعل في تزكية الصّراع والسّماح للأطراف الخارجيّة بالتوغّل أكثر في الداخل اللبناني.

قد يأبى البعض الإعتراف بهذا الواقع، ولكن الطائفيّة موجودة وورقة لعب أساسيّة لشحن أو تهدئة الشّارع بحسب الطلب، فمنذ أسابيع تعرّض أربعة شيوخ لإعتداء في بيروت ما أشعل الشّارع السني، وقبلها احتقن الشّارع المسيحي نتيجة ما سمّوه استفزازًا من الشيخ أحمد الأسير الذي توجّه إلى منطقة مؤلّفة ديموغرافيًا منهم لممارسة هواية التزلّج، ويعيش الدروز خوفًا على وجودهم في ظل المدّ الشيعي في الجبل، وكذلك تكتنف المسيحيبن مشاعر التهميش والغبن، ويعيش الشّيعة هاجس الأكثرية السنيّة، وغيرها وغيرها من المخاوف التي تستغلّ لحقنهم ضدّ بعضهم.

عدم الثقة بالدولة ولّد اصطفافًا وراء الطّوائف
ففي ذكرى الحرب اللبنانيّة، ماذا يقول اللبنانيون، وهل تغلب مرجعيّتهم الدينيّة على تلك السياسيّة، ولماذا هذا الإصطفاف والإحتقان الطّائفي، أتعلّموا من الحرب وأخذوا منها العبر، وما هي الدّولة التي يطمحون لها؟

بداية يشير جورج شرف، الدكتور في علم السياسة،في حديثه لـquot;إيلافquot; إلى أن كلّ إنسان يحدّد نفسه إنطلاقًا من هويته الثقافيّة التي هي جزء من طائفته، وبعدما فقد الثقة والإطمئنان والنظرة المحترمة تجاه الدولة والسّلطة السياسيّة التي بدل أن تأمّن له الحماية وتطبيق القانون والنظام وحماية حقوقه، وجد السياسيين متخبّطين في معركة تبادل تهم الفساد وإهانة وسبّ بعضهم البعض، ما حتمّ على الإنسان العادي البحث عن ملجأ له، ومن الطّبيعي عندها أن يرتدّ إلى انتمائه الطائفي ويربط نفسه بمرجعيّته الدينيّة، علمًا أن المواطن حتّى عندما يتعامل مع السّلطة والدولة لا ينسى إنتمائه الطائفي الذي هو جزء من هويته الثقافيّة.

السلطة السياسيّة دمّرت نفسها بنفسها
ويضيف أن القيادات الطائفيّة باتت تحلّ مكان السّلطة السياسيّة وتساهم في تدميرها أكثر، من ناحية ارتباط الإنسان بها، والدليل مغازلة السياسيين لزعماء الطوائف أو المرجعيّات الطائفيّة نفسها. وبالتالي السلطة السياسيّة لم تعد قادرة على فرض هيبتها والمولوجون بتطبيق القانون والنظام لا يدركون ماذا يحصل، أو يدركون ويتصرّفون وفق مصالحهم وهنا الخطر الأكبر، وهي بالتالي تدمّر نفسها تجاه المواطن من خلال ممارساتها.

النعرات الطائفيّة لعبة مصطنعة تحوّلت إلى وسخة
وعن الإحتقان الطائفي يقول في حديثه لـquot;إيلافquot; أنه عمليّة مصطنعة لأن هناك أشخاص مهمّتهم تعبئة وتنفيس النفوس الطّائفيّة، لأن الناس العاديين بطبيعتهم ليسوا معبأين طائفيًا ضدّ بعضهم البعض، على الرّغم من أن كل إنسان يشعر بإنتمائه أكان مسلمًا أم مسيحيًا، لكن أحدًا لا يريد إلغاء أو تصفية الآخر، لذلك الحقن الطائفي هو لعبة تتحكّم فيها المصالح الخفية الداخليّة والخارجيّة في كواليس السياسة.

ويشير إلى أن القيادات الطائفيّة يهمّها إثارة النّعرات الطائفيّة فتعمل على إدخال أفكار معيّنة في ذهن الناس حتّى يبدأوا التفكير بإنعزاليّة طائفيّة وعصبيّة، لأنه بقدر ما يشعر الإنسان الخائف من الآخر بأنّهم خشبة خلاصه الوحيد بقدر ما بيتمسّك بهم.

الإحتقان المذهبي والأصوليات المتشدّدة
ويشدّد على أن هذه النعرات لا تهدف لتمثيل جماعات معيّنة بالسّلطة وإنما هي استغلال غرائزي رخيص من قبل سياسيين فاسدين لإيقاظ عصبيّات طائفيّة موجودة باللاوعي عند كلّ إنسان، لذلك هم مسؤولون عنها وليس الناس الذين يتمسّكون بهذه الزعامات ويحافظون على وجودها خوفًا على أنفسهم ما يسمح لها باستغلالهم أكثر وأكثر، ما قد يؤدي في حال استمرارها إلى كارثة وانهيار البلد، خصوصًا عندما يأتي يوم لا يمكن فيه تنفيس هذا الإحتقان الواصل إلى أوجّه.

علمًا أن هذه العصابيّات الطائفيّة والإستغلال المستمرّ لها هي السّبب في بروز الأصوليّات الدينيّة التي لا يمكن لأي زعيم سياسي تقليدي في طائفته ضبطها، بل على العكس بات الزعماء أسرى للأصوليين ويسعون لإرضائهم خدمة لمصالح آنيّة، وهي ستؤدي في المستقبل إلى بروز أصوليّات أخرى ردًّا عليها وعلى وجودها.

اختلفوا سياسيًا واجتمعوا وراء طوائفهم
وفي استطلاع للرأي أجرته quot;إيلافquot; مع مواطنين لبنانيين من مناطق وطوائف مختلفة حول المرجعيّة التي يتمسّكون بها والسّبب في ذلك، ومدى شعورهم بالإنتماء إلى الدولة ومواطنيتهم، تبيّنت الإنقسامات بالرأي ولكن الجامع بين أكبر عدد منهم كان التّمسّك بالمرجعيّات الدّينيّة.

يقول شربل (29 عامًا من جبيل)، أنه لبناني الإنتماء، مرجعيّته السياسيّة التيار الوطني الحرّ والدينيّة الكنيسة، ويشير إلى أنه يتبع مرجعيّاته ولكنّه يحكّم عقله في القرارات الصّادرة عنها ولو أنه يغضّ النظر عن قراراتٍ أخرى، ولكنّه عمومًا يفكّر بمواطنيّته قبل كلّ شيء لأنه لبناني أوّلاً ويتقبّل الآخرين ولا يتصرّف بعنصريّة تجاه أي طرف. ويقول: quot;لكن في بعض الظروف يصبح هناك تحدٍ لطائفة أو إنتماء سياسي معيّن فيصبح الإنسان مجبرًا على الردّ، كما أن هناك تمييز سياسي وطائفي يحتمّ عليك النقاش أو الإنعزال، لذلك في ظلّ الجوّ الموجود الذي نعيشه لا توجد مواطنيّة كاملةquot;.
ويضيف: quot;المواطن يجب أن تكون مرجعيّته لبنان ووطنه والدولة أوّلاً وأخيرًا، على أن تكون دولة علمانيّة تنزع كل ما إسمه دين وسياسة من الدولة بمعنى أن من يصل إلى سدّة الحكم يتصرّف ويحكم بالعدل بين جميع المواطنين سواء الممثلين في الحكم أو غير ممثلين، فمطلبنا دولة قويّة وقادرة تخدم شعبها بمساواةquot;.

بينما يقول أمين (25 عامًا من صيدا): quot;أنا مسلم سني أنتمي إلى تيّار المستقبل، ولكن مرجعيّتي الدينيّة تأتي أوّلاً وقبل مرجعيّتي السّياسيّة، وأرى من واجبي الدفاع عن طائفتي خصوصًا في ظلّ ما تواجهه في السنوات الأخيرة من محاولة تحجيمنا وسرق صلاحياتنا منا، إضافة إلى الخطر الذي يقف أمامنا ويتمثّل بالتيّارات المتشدّدة، وأرى أن في هذا المرحلة على المرء أن يتمسّك بطائفته للدفاع عنها وعن وجوده، للعبور إلى مرحلة الأمان ونزع كلّ السلاح غير الشرعي الذي يهدّد العيش المشترك، لأن في النهاية هدفنا الوصول إلى دولة قويّة جميع مواطنيها تحت القانون ومتساوون في الحقوق والواجباتquot;.

أمّا ماري (25 عامًا من زحلة)، فتقول: quot;سياسيًا أنتمي إلى حزب الكتائب ودائمًا أفضّل فصل السياسة عن الدين، ولكنّي أرى أن انتمائي الديني في ظلّ هذا الجوّ المشحون يطغى في الكثير من الأحيان على انتمائي السياسي، وأنا كمسيحيّة مكاني الطّبيعي تحت سقف بكركي والكنيسة ولو أني لا أؤيّد جميع قراراتها، ولكن كمسيحيين ليس لدينا ممثّل سياسي واحد للطائفة وحتّى رئيس الجمهورية المسيحي ليس لديه صلاحيّات، لذلك أجد نفسي مضطرة للحاق بالكنيسة وبكركي بكلّ شيء تقوله، وأنا واثقة من أنها لن تخلق عداوات مع طوائف أخرى، كما أن لديها معطيات أكثر مني وتعرف ما هو القرار الذي يصبّ في مصلحة المسيحيين. ولكني في النهاية أطمح لدولة ترعى حقوق الشّعب، وأن تكون مصالحه فوق مصلحة جيوب السّياسيينquot;.

أمّا سارة (23 عامًا من البقاع) فتقول: quot;أنا شيعيّة إنتمائي السياسي والديني يصبّ في المكان نفسه، فأنا أؤيّد السيّد حسن نصرالله وأدرك جيّدًا أن سياسته تهدف إلى المحافظة على حقوق الشيعة والدفاع عن البلد بوجه الخطر الإسرائيلي الذي يتربّص بنا، كما أنني أحترم الطوائف الأخرى فنحن عشنا مع مسيحيين وسنة ولديّ أصدقاء من كلّ الطوائف، والأساس الذي يحكم العلاقة بيننا هو احترام الآخر وعدم استفزازه أو تمييزه ومحاولة إلغائه. أمّا الدولة التي أطمح لها هي تلك القويّة والقادرة على ردّ كلّ عداون والدّفاع عن كلّ شبر من أرض الوطن، إضافة إلى الدولة العادلة التي تساوي بين جميع أبنائها بغض النظر عن إنتمائهم الديني أو السياسي وتعمل على الإنماء المتوازنquot;.

في المقابل، يقول جان بيار (24 عامًا من الصفرا): quot;مرجعيّتي الدينيّة هي بكركي وهي المرجع الوحيد للمسيحيين في لبنان، أمّا في السياسة فأتبع quot;حركة لبنان الرّسالةquot;، هي حركة سياسيّة وإجتماعيّة وروحيّة ينطلق عملها السّياسي من مبدأ روحي، لأنّ للأسف في لبنان يتبع الإنسان مرجعيّته الدينيّة التي بدلاً من أن تكون وسيلة تهدف للصلح والمحبّة بين النّاس، تثير الإختلافات والإحتقان. ولكنّي شخصيًا أتصرّف بحكمة وهدوء وأترك الأمور تأخذ مجراها ليظهر الحقّ خصوصًا أنّ الشرّ موجود دائمًا ليزيد الإحتقان. ونحن في حركة لبنان الرسالة، نطمح لدولة تنتهج السياسة بشرف ولخدمة الخير العامّ وليس المصالح الشّخصيّة، لنصل إلى لبنان المزدهر إقتصاديًا وإجتماعيًا وثقافيًا والمبني على المحبّة وتوطيد أواصر العائلات في كلّ الطّوائفquot;.

إلى ذلك يقول مراد (20 عامًا من الشمال): quot;أنا مع العلمانيّة على الرّغم من أنّ كلّ فرد في لبنان لديه مرجعيّته السياسيّة والدينيّة، ولكن الأفضل أن نسعى للوصول إلى دولة علمانيّة مدنيّة، خصوصًا أن التجارب أثبتت أن أي طائفة لا تستطع إلغاء طائفة أخرى، وكلّنا شعب واحد نعيش في بلد واحد وتبعيتنا للبنان على الرّغم من إنتماءاتنا السياسيّة والدينيّة، وأظن أن الوقت قد حان لتطغى ثقافة قبول الآخر والإعتراف بوجوده وأن نتعالى عن كلّ العصابيّات المتحكّمة بنا وتعيش كلّ الطوائف معًا والدليل أن الحرب إستمرّت 15 عامًا ولم توصلنا إلى أي نتيجةquot;.

أمّا إيفلين (24 عامًا من زحلة) فتقول: quot;أنا مسيحيّة سيريانيّة وأنتمي إلى 14 آذار، ولكنّي شخصيًا أصطف وراء مرجعيّتي الدينيّة لأنّها تدرك مصلحة المسيحيين أكثر من السّياسيين الذين يلهثون وراء مصالحهم والبقاء في مناصبهم، وأرى أن قرارات الكنيسة تصبّ دائماً للصالح العامّ وليبقى التّعايش قائمًا بين كلّ الطّوائف، لأنّ من الصّعب على المسيحيين أن يتعصّبوا طائفياً وخصوصاً في لبنان. لكنّي في النهاية أطمح لدولة علمانيّة توصل كلّ إنسان بحسب كفاءته وليس طائفته مع محافظة كلّ فرد على انتمائه الديني، وأن نكون كلنا يدًا واحدة بوجه الأخطار المتربّصة بناquot;.

وفي السّياق نفسه، تقول نورا (22 عامًا من راشيا): quot;أنا درزيّة وأصطف وراء ديني لأن السّياسيين لا يتمتّعون بالمصداقيّة ويستغلون الدين ليحصلوا على الأكثرية، وبرأيي الدين أهمّ لأنّه ينبع من عند الله ولا يطالب بالحرب لمصالح شخصيّة، فأنا ضدّ أن نستعمل الدين لشنّ الحروب أو لتأجيج العنصريّة، وإنّما يجب استغلاله لإحلال السّلام. لا أمانع من وجود دولة قائمة على مبدأ طائفي شرط أن تحترم كلّ طائفة خصوصيّة الطّائفة الأخرى ولا تتدخّل بشؤونها الدّاخليّة ولا تعمل على إلغائها، مع حصول كلّ طائفة على حصّتها في السّلطة بما يتناسب مع حجمهاquot;.

وتضيف إليان (24 عامًا من بعبدا): quot;أنا مارونيّة ولكنّي سياسيًا أختلف مع مرجعيّتي الدينيّة أي بكركي، فأنا مع بناء الوطن وأقيم توازناً بين إنتمائي الديني والسياسي، خصوصًا أنني ضدّ التطّرف في جميع أشكاله، ومطلبي هو دولة القانون والمساواة والوعي وإلغاء جميع أنواع التّمييزquot;.