المجد للشيطان معبود الرياح
من قال لا في وجه من قالوا نعم
من علم الإنسان تمزيق العدم
من قال لا.. فلم يمت
وظل روحاً أبدية الألم. (الشاعر المصري: أمل دنقل ـ كلمات سبارتكوس الأخيرة)

لا، مفتتح لمأساة. لعنة تحل على قائلها للأبد، مفترق طرق بين حياة وحياة. لحظة يتوقف فيها العقل عن رغبته في التكيف الدائم مع كل ما حوله، ليؤكد وجوده منفصلاً عن الكون، يرفض كونه جزءاً من كل، ليتوحد مع ذاته للنهاية. أقصى لحظات الصدق، وأعمق مشاعر المعاناة.
أعذروني لتلك البداية الأدبية، فكلمة لا، دائما ما تثير فيضاَ من التأمل والدهشة، والوجع. فحين نقول لا، يعني أننا نراهن بكل شئ لصالح مجهول، نضحي براحة الانحناء، و دعم المجموع، ومظلة السلطة. لنخطو بإرادتنا الكاملة، عالم الوحدة والتيه. لنصل أو لا نصل خلال رحلة الرفض الطويلة، إلى حقيقة قد نرفضها هي الأخرى.
فكل من قال لا خُلّد في التاريخ، دليلاً على حجية اللعنة، فإبليس حين رفض أمر الله بالسجود لما خلق، عاقبه الله على رفضه وليس على منطقه في الرفض، فإبليس أبى أن يسجد لغير الله، أو يسجد لمجرد مخلوق من مخلوقاته، ولكنه لُعن من الله سبحانه لعصيانه الأمر الإلهي وجداله حول صحته، مما استلزم عقابه بخلود مؤلم، يتعذب فيه بغضب الله عليه. وحتى تكتمل حكمة الله في خلقه، يعصاه آدم ويأكل مما نُهي عنه، ليهبط إلى الأرض محملاً بذنبه، ليبدأ البشر رحلتهم سعياً وراء فكرة الخلود المنتظر في العالم الأخر,فلولا رفض إبليس، وعصيان آدم، ما كانت الدنيا. فـ quot;لاquot; هي أصل الحياة.
حتى في عالم الملاحم والأساطير، كل أبطالها نالوا الخلود، بعد مرحلة الرفض أو العصيان، (فسيزيف) عوقب بأن يحمل الصخرة ليصعد بها إلى قمة الجبل لتسقط منه من جديد بشكل أبدي، بعد أن رفض احتكار الآلهة للنار دون البشر، فسرق النار المقدسة ليمنحها للإنسانية، فلُعن للأبد، وكان عصيانه بداية لعصر جديد في علاقة الإنسان بالمقدس الإلهي كما تؤسس له الأسطورة.
ملحمة (الأوديسة) بكاملها قائمة على رحلة التيه التي عاشها (أوديسيوس) بعد عصيانه لرغبة الآلهة في اقتحام أسوار طروادة، أو المشاركة في المعركة من الأساس، فعاقبه (بوسيدون) كبير الآلهة بتيه دام عشر سنوات. أي أن ملحمة طروادة بكاملها قامت على المعصية واللعنة.
الأسطورة الفارسية القديمة خاصة في مرحلة الديانة الزرادشتية، تحكي لنا عن عدم رضوخ أهريمن إله عالم الظلمة، إلى سلطان أهورامزدا الإله الاكبر، فقرر خوض معركة طويلة لتمزيق سلطة عالم أهورامزدا النوراني، تلك المعركة جسدت فيها الأسطورة ملحمة الخلق، فمزدا يخلق العالم من سماء ونجوم وبشر وحيوانات، ليشاركوه في موقفه من هذا الشيطان العنيد. فبداية الخلق كلها قائمة على مبدأ الرفض.
كل ملاحمنا العربية، وأبطال تراثنا الطويل، خلدوا في أذهاننا وأدبياتنا، لأنهم مروا بلحظة أُمتحنت فيها إرادتهم الخاصة، ورفضهم لواقع أرادوا تغيره. حتى الحكايات الشعبية البسيطة التي تحكيها لنا أمهاتنا تؤسس لفكرة الرفض، فكلها لأشخاص قرروا خوض الحياة وحيدون، لتأسيس عالمهم الخاص. أي أن الفكر الديني والإنساني بأكمله يحكي لنا مواقف مختلفة لأفراد قالوا لا، ودفعوا ثمن ذلك لعن وحياة.
حينما نقول لا، لابد وأن ندرك جيداً، أننا نفقد معها الأمان، الراحة والنعيم المقيم، وسيُحمّلنا الأخرون بكل ذنوبهم وتخاذلهم ورضوخهم لأي شئ ولكل شئ. فالجميع مستفيد من الصمت، أو أحترف الانحناء. سنلعن على قارعة الطريق، لن ندخل بيوت من نحبهم، ستكرهنا حتى صورنا في المرآة. كل الأشياء أصبحت وفجأة تدعوا للموافقة. للانسحاب من أي موقف ضدي نراه حقاً. فلكل شئ ثمن، فلا نتوقع أن نرفض ويوافق الأخرون.
وقد توقفنا عن قول (لا) في مجتمعنا العربي منذ عهد طويل، فثقافة الرفض والاحتجاج أصبحت مجرد أسطورة ترويها لنا مجتمعات العالم الأخر بإمتياز. فما أحوجنا الأن لرفض كل شئ. لقول لا في وجه أنماط استغلالنا المختلفة.
لا لأكاذيب السياسيين، وتكسبهم من صمتنا لعقود طويلة، لا لقمع الحريات أياً كانت، فلكل الحق في التعبير أو حتى الصراخ. فالسياسة خطاب يهدف المجموع، يؤثر ويحرك الملايين نحو مصير ما، فإذا لم نعلم إلى أين المصير، ولم نقرر بوضوح الهدف والطريق، فهذا يعني أننا مجرد قطيع يساق إلى مذبح أطماع أفراد، يجيدوا قيادتنا جيداً.
لا لدعاة التدين، والمتاجرين ببقايا إيماننا، على شاشات الإعلام أو كتب الأرصفة، أو في الكنائس والمساجد، فيجب أن نفرق جيداً بين من يحترم العقل، ومن يروج لخرافات ما أنزل الله بها من سلطان. فقد أصبحنا متاع هؤلاء، مجرد ألعاب يمارسوا عليها ألاعيبهم الخاصة. وهم على يقين أننا أصبح لا طاقة لنا برفض من يخبرنا أنه وصي الله على خلقه. خاصة ونحن في مرحلة صعبة من صراعات طائفية ومذهبية تصل أحياناً للدم. فنحن نحتاج أن نعيد صياغة موقفنا من الأخر بشكل عام، لا أن نسمع من يستخدم اسم الله لترويج أباطيله. فحتى تعاطينا من الدين يحتاج منا لوقفة رفض، نحدد بعدها ما نريد بالفعل.
علينا أن تقول لا، لكل من يحاول تجهيلنا، أو يفرض حاكميته على عقولنا، أو يعتقد أنه صاحب الوصاية الحقة على حياتنا، فرغم كل ما نعانيه من إشكاليات لابد أن نظل قادرين على نقد ما يطرح علينا من أفكار وطموحات تدعي الهداية أو الخلاص. فنحن في أمس الحاجة لنناقش أنفسنا وما تنتجه حياتنا من أفكار وأشخاص وأبطال وهميون يزعمون امتلاك الحقيقة.
فمجتمعنا عانى وما زال يعاني من حالة فصام حاد، فعذابه الصباحي يتناساه ليلاً، ليعيد طقوس اليوم دون ملل. متناقض إلى أبعد حد ممكن، فدائماً ما يؤسس لأسباب تخلفه التي يعلمها جيداً ويمنحها أسرار البقاء والاستمرار. فنحن أمام حالة من الانحناء لكل المتناقضات في نفس اللحظة. فقدان لقيمة الرفض، أو الرغبة أي رغبة في التغير.
ولكن علينا قبل أن نقول لا، أن نعلم كيف نقولها ولمن، فرغم ما تحمله من معاناة إلا أن لها سحر أخاذ يشي بعالم من الخلود، فالتاريخ قد احتفظ بأسماء كل الرافضين والثوار، ولكن وكما قال أمل دنقل ( الودعاء الطيبون.... هم اللذين يرثون الأرض في نهاية المدى.... لأنهم لا يشنقون). أي أن quot; لا quot; كما هي سر الحياة والتغير، إلا أنها بداية النهاية، لكل من اعتقد أنها لوحدها تكفي. دون مسؤولية كاملة، وتحديد واضح لأسباب الرفض أو التغير، أو رسم لملامح الغد القادم، بعد أن نحتنا الأمس على جباهنا فصرنا عبيد لماض نريد استنساخه في الحاضر، كأننا فقدنا الحلم أو بالأصح القدرة على الأحلام.
يا سادة في بلاد أصبح ماضيها يمسخ نفسه في مستقبلها وجب فيها أن نقول (لا) مهماً كانت اللعنات.


أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail. co. uk