الموت هو الموت، وإن اختلفت طرائقه، فلكل مجتمع طقسه الخاص في كيفية وداع الجسد، عندما تغادره الروح. في الثقافة الإسلامية دفن الجسد من تعاليم الإسلام، التي لا يحيد عنها المسلم، لهذا يقال (إكرام الميت دفنه)، وهذا متفق عليه، وان اختلفت لغات العالم الإسلامي. لكن في الغرب القضية مختلفة - بالتأكيد ليس كل الغرب- له تقاليده، إنه اختلاف ثقافي واجتماعي، نحترمه ونحترم خصوصيته، طالما لكل منا ديانته وخصوصيته الثقافية. تختلف طقوس الدفن وطرائقه في هولندا، وقد لا يكون ذلك غريبا عن الثقافة الهولندية التي عرفت بأسبقيتها في الكثير من القوانين عن باقي الدول الأوربية، لعلها تتخلص من الإرث الريفي الذي وصمت به من قبل الأوربيين، وأصبح الهولندي محط سخرية من قبلهم، كونه، إنسان (بعيد عن التحضر )، وتارة أخرى، لأبعاد صبغة القراصنة التي عرفت بها هولندا، وأيضا لإعلان تمدنها، وذلك عن طريق سن الكثير من القوانين، ومنها:
- زواج المثلين
- زواج المثليات
- الموت الرحيم
- الإحهاض

شكل سن هذه القوانين اسبقية هولندية عن باقي الدول الاوربية، بل حتى عن أميركا التي عرف عنها سبقها المدني عن بقية البلدان.
تفتخر هولندا هذا البلد الصغير، بتنوعها الثقافي والديني والعرقي، من خلال انفتاحها على الكثير من الديانات والثقافات، حتى أصبحت بلدا متعدد الثقافات، وذلك من خلال تواجد الكثير من الثقافات والديانات على أرضها، وقد يكون ذلك راجعا، لمؤسس المملكة الهولندية والذي تعود جذوره إلى ألمانيا، وهو الملك Willem van Oranje ، وقد ذكر باسلام هذا الملك، قبل وفاته بعدة سنوات، هذا ما أكده الباحث والمؤرخ الهولندي الدكتور Tjalling Wenselaar في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه بجامعة لايدن ( الأب الأكبر للهولنديين أعتنق الإسلام في السنتين الأخيرتين من حياته، لقد أمضى المؤرخ المذكور أربع سنوات في البحث في كل الكتب والمخطوطات المتعلقة بالملك ويليام فان اورانج، يؤكد أنه لا يوجد أي استنتاج آخر من غير الذي وصل إليه في بحثه، وأن الاسم الجديد للملك بعد اعتناقه الإسلام أصبح: يوسف إبراهيم فان أورانج ناسوYusuf Ibrahim van Oranje Nassau )، لكن في هولندا المعاصرة، فقدت الوثائق التي تتحدث عن هذه الفترة.
هولندا بلد يتقبل الأخر، بتواجد الكثير من الثقافات على أرضها، وديانات متعددة أيضا، بل طوائف أيضا، وكل فئة من هؤلاء تقيم شعائرها بكل حرية على الأراضي الهولندية، بل إن القوانين الهولندية تضمن لها حقوقها كاملة.
يكون التنوع الثقافي والديني والعرقي، داخل المجتمع الهولندي، مصدر بؤر تتشظى، لهذا نجد الشعائر والطقوس الدينية( بالنسبة للاجانب ) تثير استغراب الهولنديين، مثلما تثير العادات والتقاليد الهولندية، استغراب الثقافات التي تعيش في هولندا،ومنها طقوس الموت ( طقس التراب والرماد).

طقس التراب

بطاقة الدعوة نموذج واحد

يوارى الجسد مكانه الطبيعي تحت التراب؛ عندما يتوفى الشخص في البيت او المستشفى، يتم إعلام عائلة المتوفى، والأصدقاء، والمعارف، ويكون كالأتي:
1-إذا توفى الشخص داخل البيت، ينقل جثمانه الى المستشفى لعمل الإجراءات الطبية، واستخراج شهادة الوفاة، بعدها تتفق عائلة المتوفى مع إدارة المستشفى، على موعد مراسيم الدفن، تقوم العائلة بإرسال بطاقات دعوة الى كافة افراد العائلة، والأصدقاء، والمعارف، لأخبارهم بالموعد، والاهم يوم مجيء الجثمان للبيت، ويحدد ذلك أيضا ببطاقة الدعوة؛ أوقات وأيام النظرة الأخيرة على الفقيد، إذن ماهي النظرة الأخيرة؟ ويوم الدفن؟ وما هو طقس الصلوات داخل الكنيسة؟ لماذا ترسل بطاقات دعوة؟

علامات الوداع
يرسل الجثمان إلى دار المتوفى، مع أجهزة تبريد خاصة كي تحافظ على عدم تفسخ الجثة، يبقى في الدار من يومين الى ثلاثة أيام، من اجل البقاء مع عائلته، ويسجى على سريره الشخصي طيلة هذه المدة، وفي بطاقة الدعوة، يذكر فيها أوقات وأيام تواجده، لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، وهي دلالة تسميتها واضحة، وهي لإلقاء تحية الوداع، وطبع قبلة على جبينه.
يلتزم الضيوف بالأوقات المكتوبة،لإتاحة الوقت لبقية الضيوف لإلقاء تحيتهم أيضا، طقس الوداع يتم فيه تقديم القهوة للضيوف، عائلة الفقيد تمارس يومها بشكل طبيعي بعد مغادرة الضيوف، رغم حزنهم على فقيدهم، لكنهم لا يذهبون الى أعمالهم، لكن داخل البيت، مساء يجتمعون على طاولة الطعام، او يشاهدون التلفاز مثلا، وليس غريبا إذا تحدثوا بأمور حياتية، تكون بعيدة عن حالة فقدان عزيز.

علامات الصلوات داخل الكنيسة
يمتلك الطقس داخل الكنيسة خصوصيته كطقس ديني تحكمه العادات والتقاليد الدينية، تحضره العائلة والأصدقاء والمعارف، او كل من توصل ببطاقة الدعوة لحضور المراسيم، عندها تكون الجثة قد انتقلت الى المستشفى قبل ذلك بيوم، لغرض تهيئتها للدفن، ثم يصل النعش بسيارة سوداء مخصصة لهذا الغرض، مليئة بالزهور البيضاء، يدخل النعش الكنيسة بواسطة عربة متوجها الى المكان المخصص، ويكون قرب مكان القس، يقف على زوايا النعش الأربع، أقرباء الفقيد من الدرجة الأولى بحيث اذا كان الوالدين أحياء، هما من يقفان بالمقدمة، واثنان من العائلة بالخلف، وهكذا إذا كانت العملية معكوسة.

بعد ان يستقر النعش قرب محراب الصلاة، تبدأ مراسيم الصلاة التي يبدأها القس،بعدها يتحدث القس عن الحياة الفانية، وكيفية اخذ الموعظة والعبرة من الحدث، وبعدها يكون ترتيل جماعي من خلال كتيب صغير، وزع على الجميع، بعد الانتهاء من الصلاة، ينادي القس على اسم شخص اتفق مسبقا عليه، ويكون قريب للفقيد، للإلقاء كلمته، وتكون الكلمة استحضار مآثر الفقيد، واستحضار جوانب من حياته، وإذا كان الفقيد توفى نتيجة مرض عضال مثلا، تذكر معاناته مع المرض، وان الموت هو هدوء وسكينة ورحمة من الله، للخلاص من تلك المعانات، وفي النهاية يشكر المتحدث كل الضيوف لتجشمهم عناء الحضور ومشاركتهم هذا المصاب،(انظر الصورة على الجانب الأيسر).

بعدها يأذن القس بإخراج النعش والذهاب به إلى المقبرة، وعند الخروج يعاد طقس الدخول نفسه، بالنسبة لمرافقة النعش،حين المغادرة يهتم عمال مخصصون لهذا الغرض بالنعش وإعادته الى السيارة السوداء. تنطلق السيارة باتجاه المقبرة، حيث يكون هناك كل شيء جاهز لطقس الدفن، تقف العائلة والضيوف جميعا بجهة واحدة، والقس وعمال الدفن خلفه بالجهة المقابلة، للوداع الأخير، يتلو القس صلواته من الكتاب المقدس أثناء عملية نزول النعش الى القبر، عند إتمام عملية النزول، ترمى الزهور على النعش، ثم يأذن القس بإغلاق القبر بقواطع إسمنتية، ومن ثم يهال التراب عليه، بعدها تسير العائلة والضيوف واحدا واحدا، لأداء تحية الوداع، ومن ثم يغادر الجميع المقبرة، الى دعوة الغداء التي تقيمها العائلة على شرف الضيوف في احد المطاعم الذي تم حجزه مسبقا ،( انظر الصورة على الجانب الأيمن).

حفلة الغداء
تقام الدعوة خصيصا للضيوف، تجلس عائلة الفقيد على طاولة خصصت لهم، بعد الانتهاء من الغداء وشرب القهوة، يقوم جميع المدعوين بتقديم التعازي للعائلة والشد من أزرهم لفقدانهم عزيز عليهم.
هذه العملية معناه انتهاء مراسيم الدفن والاستقبال والتعزية، تبقى العائلة لوحدها داخل المطعم، بما يشبه اجتماع عائلي، يكون الحديث فيه مخصصا عن التركة وكيفية تسويتها، ويكلف شخص منهم للتواصل مع محامي العائلة بهذا الشأن، هذا في حالة وجود تركة، اما بعكسه، فهو حديث عن تكملة الإجراءات القانونية، بعد الانتهاء من هذا الاجتماع العائلي يقدمون التعازي لبعضهم البعض، وهذا يعني انتهاء المراسيم الرسمية للدفن.

بطاقات الشكر

ترسل عائلة المتوفي بطاقات شكر لكل من تحمل عناء المجيء والمشاركة، وهذه تكون بعد أيام من انتهاء مراسيم الدفن، يكتب فيها كلمات للفقيد، كأن تكون حكمة يؤمن بها، او كلمات يرددها باستمرار، لكن المهم في هذه العلامة هو توثيق لمرحلة انتهت لشخص قاسمهم الحياة بسلبياتها وإيجابياتها.

نموذج بطاقة الشكر

هذا الطقس هو طبيعي الى حد ما، لأننا نجده عند المسيحيين داخل مجتمعاتنا العربية، لكن هناك اختلافات جزئية، ومن هذه الاختلافات :
1-بطاقات الدعوة الأولى لإلقاء تحية الوداع.
2-تنظيم دعوة الغداء في احد المطاعم.
3-بطاقات الشكر بعد انتهاء مراسيم الدفن.
لكننا لو نظرنا بتفاصيل المراسيم، منذ اليوم الأول سنجد فيها خصوصية، هذه الخصوصية تكمن في الاستثناءات، وأيضا في المراسيم الرسمية، وطريقة تنظيمها، وكل ذلك هو مجموعة علامات متوالية، كي تعلق في الذاكرة بقوة كبيرة، وبالتالي ترسخ لقيم وتقاليد غريبة عن مجتمعاتنا.

يتبع