لست اود اللجوء الى الاسلوب التوافقي المحشو کذبا و نفاقا و مرائاتا، وانما أرغب في التحدث بصراحة متناهية و بعيدة عن کل أشکال المراوغة و اللف و الدوران و التورية، أن الحکم الذي أصدرته المحکمة الجنائية العراقية بحق طارق عزيز هو حکـم أقل مايقال عنه مجحف و غير منطقي و لايتسم بروح العدل و الانصاف و لايتسم بأي بعد او جانب او روح إنسانية بل إنه يتشح بدثار غليظ جدا من روح الوحشية و الانتقام و التعطش للدماء، والاستمرار في کل مامن شأنه أن يثير الکراهية و الضغينة و البغضاء.

لست أدعي بأن طارق عزيز قد کان کذا سياسيا محنکا او رجلا محايدا او غير متورط بأية جرائم بحق الشعب العراقي، لکن لابد من الإشارة الى حقيقة مهمة و إستثنائية تتجلى في ان عزيز قد قام بتسليم نفسه طواعية للقوات الامريکية وهذا الامر کان يجب أخذه بنظر الاعتبار عند إصدار الحکم عليه بعد المحاکمة الماراثونيـة التي جرت بحقه والتي طغى عليها الجانب الاستعراضي، وهو في کل الاحوال لايستحق هذا الحکم المجحف الذي صدر بحقه والذي صدم و فاجأ العالم برمته و الاجدر بقادة العراقquot;الجديد القديمquot; أن يفکروا کثيرا کثيرا وان يعملوا أقل من القليل في الحالات المتعلقة بحياة و مصير أي سياسي عراقي کان مخالفا او مسيئا لهم وللشعب العراقي، لا لشئ إلا ليبينوا للعراقيين اولا وللعالم أجمع أن الذي جرى في العراق هو تغيير نوعي و حقيقي وان العراق قد ودعquot;نمطاquot;و حقبة سوداء من تأريخه وانه يعيش عهدا جديدا بکل ماللکلمة من معنى، عزيز الذي لمع نجمه کسياسي عراقي على مختلف الاصعدة و طغت نجوميته کدبلوماسي مميز على کافة الجوانب الاخرى ولم يعرف او يتناقل أي عراقي معلومة عن تورط لهذا الرجل في جرائم او إنتهاکات بحق أي عراقي.

ان إجابة منطق العنف بالعنف، والدم بالدم، بل وحتى المغالاة في الانتقام و التشفي و التهکمquot;کما هو سائد دائما خلال التغييرات الدراماتيکية في العراقquot;، لم يعد أمرا مجديا للواقع العراقي المتسم اساسا بالدموية و العنف، وانما لو دققنا النظر بإمعان في المشهد العراقي من بعد سقوط نظام حکم البعث، لوجدناه أحوج مايکون للروح المتسمة بالتسامح و الإيثار و غض النظر عن الماضي و فتح صفحة جديدة تٶسس لمرحلة جديدة تهيمن عليها المعاني و القيم الانسانية النبيلة و تنهي والى الابد تلك المراحل الدموية و اللاإنسانية التي ترافق سقوط او تغير أي نظام او عهد سياسي.

النظر في التأريخ العراقي السحيق و إستحضار تلك المشاهد المروعة من العنف الفردي و الجماعي المحرك أساسا بدوافع و عوامل قد لاتستند في خطها العام على أي أساس من العقل و المنطق، وهناك حالات کثيرة في التأريخ العراقي قد جرت وفق هذا السياق، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر، ماجرى بحق اليهود بعد حادث مقتل الملك غازي أثر حادث سيارة حيث هاجم الناس مصالح اليهود في بغداد فيما عرف حينه بالفرهود من دون أن يکون لليهود العراقيين حينئذ أية علاقة لامن قريب او من بعيد بتلك الحادثة وخلالها حدث هرج و مرج وسلبت أموال اليهود و قتل و جرح نفر کثير منهم من دون وجه حق، او ماجرى من قتل و إجرام و همجية غير مبررة بحق العائلة المالکة العراقية و ساسة عراقيين کبار کنوري السعيد الذي لم ينجب العراق لحد الان سياسيا يمکن أن يضاهيه دهائا و حنکة و براعة في العمل السياسي من أجل العراق و شعب العراق، کما أن الذي جرى بعد إنقلاب الثامن من شباط الاسود وماأرتکب بحق الشعب العراقي خصوصا على يدquot;الحرس القوميquot;التابع لحزب البعث من قتل و إرهاب و تنکيل بالناس الابرياء العزل، کل ذلك و صور أخرى تدل على هيمنة روح العنف و الانتقام الدموي على أي عهد جديد(ماعدا العهد الملکي فقط و کذلك إنتقال الحکم الى الرئيس العراقي الاسبق عبدالرحمن عارف)، والامر الواضح جدا ان کل حالات الانتقام و التصفية و الاقصاء لم تتمکن من حل القضايا العالقة و لا معالجة جوهر و اساس المشاکل بل وانها قد ساهمت في المزيد و المزيد من تعقيدها و إدخالها في مسارات أکثر دموية و إجراما.

حري بقادة العراق، أن يتعظوا و يأخذوا أکثر من عبرة و درس من الاسلوب الذي تعاملت به إسرائيل بعد إعتقالها لمجرم الحرب ادولف آيخمان الذي کان قائدا لفرقة الاس الاس الالمانية النازية و قتل مايقارب من أکثر مائة ألف يهودي، حيث کان تنفيذ حکـم الاعدام الصادر بحقه إيذان بإلغاء حکم الاعدام في الدولة العبرية للأبد وهو أمر ساهم في لفت نظر الرأي العام العالمي لهذه الدولة و أکسبها المزيد من التعاطف و الاسناد، أو لينظروا الى الرأفة الالمانية بأريش هونيکر رئيس جمهورية المانيا الديمقراطية لسنه، ولاسيما وان عزيز أيضا قد بان الکبر عليه واضحا جدا وهو يعاني من أمراض عدة، ارحموه و أعطوا ولو لمرة واحدة للعالم أجمع مثالا واحدا على أنه قد حدث هنالك تغيير حقيقي في العراق.

اليوم، على الساسة العراقيون أن يسلکوا منهجا و طريقا جديدا يضع حدا نهائيا لکل ذلك التأريخ الاسود الذي رافق مراحل التغيير و الاضطراب في العراق، کفاکم إعداما و سجنا و تنکيلا بالخصوم، ضعوا حداquot;إن إستطعتم وکان بإمکانکمquot; لروح التشفي و الاستهتار و السادية المقيتة التي باتت تعشعش داخل أعماق غالبية العراقيين بفعل التأکيد على سياسة الانتقام و تصفية و إقصاء الآخر، وجربوا ولو لمرة واحدة أن تٶسسوا فعلا لعهد جديد و عراق جديد وليس عراق يحکمه ألف صدام و صدام، لمن أي صدام؟ صدام مشوه بالمرة!