كانت السعودية أحدث الدول التي نظّمت شأن الفتوى فلا تصدر إلا عن أهلها. وقد سبقتها بعض الدول الاخرى قديما وحديثا. وجميعها حاولت جاهدة وصادقة قصر الفتوى على من هم أهل لها. لكن بقيت المشكلة في تحديد مسألة الأهلية، فمن يكون من هو أهل لها: هل هو المتبحر بعلوم الدين؟ ام هو القادر على الاستنباط؟ ام الذكي القادر على ايجاد ما يوفق بين تطور الحياة ونصوص الدين؟
المتبحرون بعلوم الدين قد لا يتوافرون على الذكاء بالضرورة أو لا يعلمون الكثير من علوم الدنيا، والذكي العالم بأمور الدنيا قد لا يكون متبحرا بعلوم الدين، والقادر على الاستنباط قد لا يتوفر على ذكاء يصيب به الاستنباط هدفه.
هكذا يمكن ان نجد عناصر كثيرة تحدد صاحب الأهلية لكن دون ان نعرف حقيقة أيها الأهم. ولن اخوض أكثر في مسألة الأهلية مكتفيا بالوقوف على نقطة واحدة لم تستوف حقها من البحث والاهتمام، إنها مسألة الخلفية الاجتماعية والأسرية لأهل الفتوى، فماذا عنها؟
رغم ما كتبه بعض المفكرين والباحثين عن معايير الأهلية في الفتوى، وما تطرقت له بعض الكتب، إلا أني لم أقع على من يولي اهتماما ملحوظا للخلفية الاجتماعية والاسرية لمن يراد له ان يتسلم زمام الفتوى.
لقد انصب التركيز على شرط أساسي هو التبحر في علوم الدين، مع شيء من علوم الدنيا، وقدر من الذكاء والبديهة كثيرا او قليلا احيانا. لكن هل يلغي ذلك أهمية المنبت الذي نشأ فيه صاحب الفتوى؟
كلنا يعلم ان الطفولة تنعكس مباشرة على حياة الانسان وتعامله مع الآخرين وسلوكه وفكره وتصرفه مدى حياته. وإن قرأنا في فتاوى بعض المصرح لهم بالافتاء في بعض الدول الاسلامية سنكتشف في العمق البعيد خلفية لا تهيئ أحدهم ليكون عالم دين او رجل فتوى، بل ولا تمنحه حضورا دينيا اكثر من أن يكون امام مسجد.
فمن يفتي بأن الأرض مسطحة ويكفّر من يقول بكرويتها، فهذا يعكس طفولة لم تؤمن بالعلم ولا تناقش فيه. وعندما يفتي أحدهم بأن quot;لحوم العلماء مسمومةquot; فهو يعكس طفولة تعسة مقموعة. وعندما يفتي أحدهم برضاعة الكبير فذلك يعكس طفولة محرومة.
هناك امثلة كثيرة يمكن التدليل بها، ويمكن لكل منا ان يبحث في تاريخ طفولة اصحاب الفتاوى الغريبة والشاذة والخارجة عن العقل ليدرك مدى انعكاس طفولتهم على رؤيتهم للأشياء.
لن تجد صاحب طفولة تعسة وقاسية وهو سعيد برؤية اناس سعداء. ولن ترى صاحب طفولة سوية وهو ظالم أو قاس في فتواه. لن يفتى رجل نشأ طفولة حنونة معتدلة برضاعة الكبير. ولن تجد رجلا نشأ في بيت يؤمن بكرامة الانسان وهو يفتي بقتل كل من صادق نصرانيا. وهذا ما يدفعني الى القول بأن يكون من بين شروط أهلية اصحاب الفتوى انتمائهم الى خلفية اجتماعية واسرية سليمة المنبت والنشأة، فلا تنبلي الأمة بمفتين امتلأت طفولتهم بعقد ومآس يدفع ثمنها المجتمع بأكمله.


[email protected]