من بين اكثر من ستمائة محطة فضائية، ستطالعك اربعمائة منها هي اسلامية محضة. عندما تجاهد في متابعة شيء منها، ستكتشف انها جميعها صورة عن بعضها البعض. لا شيء يميز واحدة عن أخرى.. لا شيء. فهي تسير على النمط الممل ذاته، من داعية شاب اسبل لحيته لا تعرف ما هي خلفيته الدينية يفتي بكل شيء، إلى آخر يفسر الأحاديث كما لو أنه يروى ألف ليلة وليلة، مرورا بثالث يصرخ في هيستيريا عجيبة مهاجما الغرب الكافر والشرق الملحد وشبابنا التائه.
ان كان من غزو فكري وثقافي وديني يهدد هذا الشباب التائه بل والمجتمع الاسلامي كله فهي قنوات كهذه. ذلك انها تأخذ من المجتمع اكثر مما تعطي له. وما اقصده بأنها تأخذ من المجتمع هو عدم قدرتها على تقديم حلول عملية ومنطقية لكل ما يواجه الناس من أزمات، وأكثر ما تصنعه هو خلق ارادة ميتة لدى الانسان تحثه على الاستسلام لقضاء الله وقدره والتسليم بأن كل شيء مقدر منذ الأزل ولا قبل للإنسان بتغييره. إنها باختصار معول هدم للإرادة الانسانية. لقد فشل هذا الكم الكبير من القنوات الدينية في خلق شخصية اسلامية معتدلة نقية سليمة، تؤمن بالحرية وباحترام الآخر وبالعلم والأدب.
هذه القنوات فصلت الانسان عن واقعه وعن دنياه التي يعيشها، واسكنته في أحلام الآخرة وحدها. فقد صورت الدنيا على انها دار كفر ودنس ولا طهارة للإنسان ولا سعادة سوى في الآخرة. لقد خلقت شخصية انهزامية لا تؤمن سوى بمظاهر الدين من صلاة وصوم على أمل الدخول الى الجنة من اوسع ابوابها، ضاربين بعرض الحائط بكل قيم الدنيا الفانية. فكانت النتيجة ان تحولت هذه الأخيرة الى ما يشبه المعتقل الفكري الكبير المليء بالهموم والآلام. لكن صبرا صبرا آل ياسر.. كما يردد المشايخ على مسامع ملايين المستضعفين من رجال وولدان ونساء. ويصبر هؤلاء على ما يصيبهم دون ان يبادروا الى تغيير واقعهم الى الافضل، او حتى يفكروا في مصائرهم تاركين كل شيء للقدر وفتاوى هذا الجاهل او ذاك.
إنها جرعات من المخدر الديني نقدمه بوعي او لا وعي لأمة كاملة. وإن ارتأى البعض ان العلمانية هي تهمة تعادل الزندقة، فما نقول عن المشايخ الذين فصلوا الدين عن الدنيا بأنفسهم وهم يحرضون الناس على العبادات من صلاة وزكاة وصوم، وينسون أن الدين هو معاملة في الاساس، وهو علم في الاساس، وهو طهارة في النفس واللسان والجسد؟
لقد انتشر الفقر في الجيوب والنفوس، وكثرت القذارة في الطرقات والمعاملات، وتفشى الكذب والخداع وتحقير الآخرين في كل بيت ومدرسة وشارع وحتى داخل المساجد ذاتها، فأين شيوخ الفضائيات من كل ذلك؟
لن افتي فلست بشيخ، لكني اقول كإنسان يؤمن بالعقل والعلم والعدل، ان مثل هؤلاء الدعاة المدّعون يجب ان يحاسبوا على ما يفعلونه بالمجتمع من تدمير، وان اصحاب تلك القنوات، او معظمهم على الاقل، لا يقلوا خطورة عن مجرمي الحرب.
- آخر تحديث :
التعليقات