عدت أقرأ مؤخرا عن الديانات القديمة، وعلى رأسها الكونفوشية والزرادشتية والمانية والبوذية. كنت مولع دوما بعلم الاديان المقارن، وخصوصا سيرة حياة الشخصيات التي تقف وراء هذه الأديان ورسالتهم للناس. وتسائلت: هل هؤلاء انبياء مرسلون يا ترى؟
ما يدفعني الى طرح السؤال هو انك عندما تقرأ افكار أحدهم مثل بوذا على سبيل المثال، تجده يدعو الى ما يدعو له كل الرسل: الفضيلة وتطهير النفس وتنويرها بالمحبة وعدم الانغماس في الملذات. وبالمثل فعل كونفشيوس من قبله وماني من بعده وزرادشت.
الرسول الكريم عليه السلام هو آخر الرسل، وفي الحديث quot;إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاقquot;. بمعنى ان هناك من نادى قبله بمكارم الاخلاق وهم الانبياء السابقون. لكننا لا نعرف كم عددهم ناهيك عن معرفة اسمائهم.
ونحن ان كنا لا نملك أدلة على أن أناسا مثل بوذا او كونفشيوس او زرادشت هم بمرتبة انبياء او رسل، فنحن في المقابل لا نملك ما ينفي ذلك. والقران الكريم بنفسه أورد ان هناك رسلا قصصهم على الرسول عليه السلام وهناك من لم يقصصهم عليه.
قد يقول البعض ان هؤلاء طالبوا اتباعهم بعبادتهم لهم. بمعنى ان كونفشيوس او بوذا او ماني طالبوا اتباعهم بتأليههم وعبادتهم، لكن هذا غير صحيح، والقول به ينم عن جهل كبير. فكونفشيوس صاحب أول فلسفة مكتوبة في التاريخ، والفلسفة تعني محبة الحكمة، والدين كله حكمة ورأس الحكمة مخافة الله. ولن تجد كتابا واحدا عن الرجل يقول بأنه طالب أحدا بأن يعبده. بل إن بوذا نفسه، وهو الأمير البراهمي، كان يقول ان من العار ان يعبد الناس انسانا، وطالب أتباعه بأن لا يفعلوا ذلك أبدا.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
عبدتهم الناس. لم يكن ذلك خطأ هؤلاء الرجال بل خطأ اتباعهم، خطأ الانسان نفسه الذي يحول الحكيم الى مقدس ثم يحول المقدس الى معبود. إنه طبع البشر في عبادة ما يرونه مصدرا للحكمة وسط ظلمة الجهل. فعلها من قبل المصريون القدامى عندما عبدوا حكامهم، وحتى الوثنيون الذين صنعوا اصناما على هيئة البشر. ان الدين باختصار يفقد حقيقته بالتدريج.
وان سألني أحدهم: ماذا تقول اليوم عن اتباع هؤلاء الذين يعيشون بيننا في الصين والهند وأي بقعة من العالم، هل هم مؤمنون اصحاب جنة مثلنا؟ سأجيب بسؤال: وماذا تقول عن المسلمين اليوم، عن مثلنا، هل نعكس كلنا حقيقة الاسلام، وهل كلنا في الجنة وبيننا الكاذب والمنافق والزاني والسارق؟
الأديان تأتي صحيحة في اصلها لكن الانسان يحرفها وفق اهوائه، ويحتال عليها. ليس في البوذية او المسيحية وحدها بل وفي الاسلام ايضا.
الاديان كلها تحث على الفضيلة، كلها بلا استثناء، لكن الانسان ينزع الى التحريف بما يتفق وانغماسه في الملذات. وهذا لا يعني ان هذا الدين صحيح وذاك خاطئ، بل يعني ان هذا انسان مستقيم وذاك يستطيب الخطيئة.
ذات مرة دار حوار بيني وأحد الملحدين. قال إنه لا يؤمن بالله. وان كل الاديان ليست سوى اختراع بشري. اجبته بشيء واحد: لنفترض ان لك صديقان، احدهما يحثك على تعاطي المخدرات وآخر يحثك على مزاولة الرياضة، أيهما افضل كل كصديق؟ قال الثاني. قلت حسن، أنت فضلت من يدلك على ما هو خير لك، كذلك هو الإيمان بالله يدلك على خير نفسك. هو لم يأمرك بأن تزني وتسرق وتكذب، بل أمرك، على لسان انبيائه ورسله، ان تكون صالحا ومستقيما وتراعي الفقراء والمساكين. أي انه يأمرك بالفضيلة. ومن يأمرك بالفضيلة يدل على أنه يريد الخير لك ولا احد يريد الخير لك سوى الله.
انطلاقا من هذه القناعة سنجد ان الرسل كلهم يدعون الى الفضيلة والخير للانسان، سواء من ذكر منهم في القرآن الكريم ومن لم يذكر. واصحاب الديانات القديمة أتوا بالشيء ذاته بتمامه وكماله، فما ادرانا انهم ليسوا بأنبياء؟
وأختم بسؤال آخر: هل كل الانبياء ظهروا فيما بين النهرين او الشام او جزيرة العرب؟
لا.. فالعالم اكبر من ذلك بكثير. والحضارات القديمة الموجودة حتى في وسط امريكا الجنوبية يعود بعضها لآلاف السنين، فهل هؤلاء كانوا بلا أنبياء؟
ان العدالة الإهية تقتضي ان يبلغ الناس برسالة السماء اينما كانوا، وهذا يعني ان الرسالة يجب ان تكون وصلت الى كل بقاع الارض لا في ارضنا وحدنا فقط، وأن الرسل هم اكثر بكثير بكثير مما تتسع له مداركنا.
- آخر تحديث :
التعليقات