عندما قرأت امس الخبر المنشور في إيلاف عن نشر اعلانات امريكية تشجع على ترك الإسلام، استفزني الموضوع ورفضته. فلم أكن قادرا على تخيل ان يلجأ المجتمع الأمريكي الى هذه الدرجة من الرفض للإسلام كي ينشروا اعلانات تدعو كل من هو مؤمن به للخروج منه. لقد كان خبرا مزعجا حقا. لكن بعد أن هدأت بعض عاطفتي بحثت عن تفسير منطقي للخطوة الأمريكية. لن اقول بأني قادر على تفهمها ما لم أعترف بحقيقة مهمة وهي أن العنف الذي مارسه المسلمون داخل ديار المسيحية في السنوات الأخيرة هو اكثر مما مارسه المسيحيون في ديار الاسلام، ولم تكن احداث سبتمبر إلا تتويجا لذلك. منذ تلك اللحظة فتح الغرب عيونه على اسئلة كان صامتا عنها لفترة طويلة: لماذا يفجروننا؟ لماذا يقتلون الابرياء في المدن؟ لماذا يحاربون أي تبشير فوق ارضهم ولا نمنعهم نحن من الدعوة الى إسلامهم فوق ارضنا؟ لماذا يرضون أن أتحنا لهم حرية المعتقد ويرفضوا حرية الخروج من المعتقد؟
نحن نفترض دوما ان الاسلام في خصومة مع غيره من الأديان، فنستبق حربا لا مبرر لها. وأمام الغرب تحديدا، نحن مسكونون بهاجس الخصومة التاريخية. مؤمن أنا بأن الغرب لا ينسى خصومات التاريخ بالمثل، لكن اولوياته اليوم تجاوزت الانتقام الى تنمية المجتمع على اساس مبدأ لا مساس فيه: الحرية. لقد اصبحت هذه الحرية، بعد قرون طويلة من الصراع هاجس الغرب الأكبر، حتى أصبحت قيم المجتمع وثقافته تعتمد عليها، وهو ما لا يمكن ان نفهمه نحن المحرومون من هذه الحرية على صعيد سياسي او اجتماعي او ديني. فأكثر الشجعان فينا يخافون من نكتة في العلن تمس الحاكم او رجل دين. وأكثر الشجعان فينا يخافون الخروج على عرف اجتماعي عمره الف عام. واكثر الشجعان فينا يخافون ان يطرحوا سؤالا دينيا حائرا يحتاج الى اجابة لا يملكها احد.
نحن لا نعرف معنى كلمة quot;حريةquot; لأنها غير موجودة في قواميسنا، ناهيك عن أن نقدر قيمتها في مجتمع غربي تعتمد كل قيمه عليها. تاريخيا.. نحن معادون للحرية. فتراثنا العشائري معاد لها، وصولاتنا المتخمة بالدماء والسلاح معادية لها، وديننا يتخذ موقفا غامضا منها.
هذه الضبابية في فهمنا للحرية، أمام عمق إيمان الغرب بها، خلق الصدام بيننا. إنه ليس صدام بين دينين او حضارتين، بل هو صدام سببه انعدام ارضية مشتركة نقف عليها لمعنى الحرية. هم يؤمنون بحريتك في ان تبشر بدينك على ارضهم، لكن يجب ان تسمح للآخرين ان يمارسوا حريتهم ويبشروا بعكس ما تدعوا اليه. لماذا الغضب إذا من نشر اعلانات تدعوا الى ترك الاسلام طالما انك تملك الحرية كاملة بدعوة من أردت الى الاسلام؟
تخيلوا أي عاصمة اسلامية تسكن فيها اقلية مسيحية، هل كنا لنسمح لهم بالتبشير بدينهم بين المسلمين؟ لو حدث ذلك فسنمنعهم ولا شك. بل وسنعاقبهم ونحاكمهم وفق قوانيننا التي لا تفهم هي الأخرى معنى الحرية.
ماذا سيحدث لو سيرنا حافلات في مدننا تدعو المسيحيين الى ترك ديانتهم؟ سنكبر لها ونتبرع بسخاء لكل حافلة كي تمضي إلى آخر الدنيا في رحلتها المباركة.
هذا هو الفرق بين مفهوم الحرية هنا وهناك. إنها قيمة لا تتجزأ هناك.. ولا شيء هنا. لذلك أقول بأنه لا ينبغي أن تغضبنا تلك الدعوات الأمريكية الى ترك الاسلام طالما هي حرية استفدنا نحن منها في الدعوة الى الإسلام. إن رفضنا لتلك الاعلانات الأمريكية إن هو إلا خسارة لنا أولا.
نبالغ كثيرا في رد فعلنا لكل ما يمس الإسلام. ونحن دون أن ندري او نعي نجعله بمواقفنا الانفعالية يبدو ضعيفا هشا يؤثر فيه أقل الناس قدرة على التأثير. لتمض الحافلات الأمريكية كيفما شاء الله وعين الله ترعاها، فإن استطاعت ان تقنع احدا بترك الاسلام فهو مقتنع بها وبدونها، وان فشلت في هدفها فهي على الأقل تمارس حرية استفاد منها الاسلام نفسه اكثر مما استفادت منها المسيحية نفسها.


[email protected]