كان بإمكان إسرائيل منع قافلة الحرية من الوصول إلى شواطئ غزة من دون اللجوء إلى استعراضات عسكرية بهلوانية. لكن اصحاب القرار في إسرائيل قرروا عن سابق تصور وتصميم صناعة مجزرة بشرية وإعلامية وسياسية في الوقت نفسه. وفي النتائج الأولية يمكن تسجيل التالي:
رفعت إسرائيل من منسوب حماوة الأزمة في الوقت الذي تجهد الإدارة الأميركية إلى ترتيب بارد لموضوعات التفاوض والحلول. والحق ان مثل هذه المجزرة من شأنها أن تحرج الإدارة الأميركية اكثر من غيرها بطبيعة الحال. ذلك ان الإدارة الأميركية ستجد نفسها ملزمة مرة أخرى في التزام جانب الدفاع عن إسرائيل وتجنب صدور إدانة دولية صارمة في حقها. والأرجح ان نتانياهو وحكومته تصرف بوصفه الولد المدلل والضال للإدارة الأميركية والتي تجد نفسها مجبرة على الدفاع عنه مهما بلغ ضلاله وفساده. وتالياً استطاع نتانياهو من دون شك ان يضع الأمور في المنطقة على سكة مخالفة للتوقعات. فمن جهة أولى لم يكن يستطيع ان يشعل حرباً شاملة من دون موافقة أميركية، وهي، اي الحرب الشاملة، ما قد ينقذه من العزلة الدولية التي يواجهها يوماً بعد يوم. لكنه من جهة أخرى وضع نفسه في موقع قاطع الطريق الذي يقطع مسيرة القافلة. والقافلة التي يريد نتانياهو قطع طريقها ليست قافلة المساعدات التي تعرضت للهجوم الإسرائيلي في المياه الدولية، بل القافلة التي يقودها باراك أوباما استناداً إلى رؤيته وخطته للسلام في المنطقة.
من جهتها تدرك الإدارة الاميركية حجم الإحراج الذي سببته القرصنة الإسرائيلية الموصوفة، لكنها، وبخلاف دول العالم الأخرى، الكبيرة منها والصغيرة، لن تلجأ إلى إدانة إسرائيل او تحميلها عواقب الهجوم. لكن هذا الحرج الأميركي لن يمنع الإدارة الاميركية من تشديد الضغط الداخلي على حكومة نتانياهو، وهذا ما بدأت طلائعه تظهر في متن السياسة الإسرائيلية، وهي مرشحة للتصاعد في الأسابيع القليلة المقبلة بما يعيد الحكومة الإسرائيلية إلى عنق الزجاجة مرة أخرى، إنما هذه المرة من بوابة الداخل.
رغم الإحراج الناشئ عن الجريمة الإسرائيلية التي حدثت عن سابق تصور وتصميم، إلا ان هذه الجريمة وتداعياتها قد تكون عظيمة الفائدة للسياسة الاميركية في المنطقة. إذ ليس خافياً على اي كان حجم الامتعاض الأميركي من سياسات نتانياهو، وتالياً ليس مستبعداً ان تمارس الولايات المتحدة الاميركية اقصى الضغوط من أجل هزيمة التحالف اليميني في إسرائيل داخلياً واستبدال الطاقم الحالي في الحكومة الإسرائيلية بطاقم أكثر طواعية وتعقلاً. لكن الجانب الأهم الذي تنظر إليه الإدارة الأميركية بعين الرضا على الأرجح، هو الجانب المتعلق بتصدر تركيا، التي تقع على باب أوروبا والعضو الفاعل في حلف شمال الأطلسي، لخوض المعركة السياسية والإعلامية ضد إسرائيل وسياساتها في المنطقة. هذا فضلاً عن دورها الأساسي في الاتفاق الثلاثي مع إيران والبرازيل في ما يخص الملف النووي الإيراني. والذي كشفت الصحف البرازيلية انه نسخة طبق الأصل عن الرسالة التي بعث بها اوباما إلى الرئيس البرازيلي، حين عزم الاخير على تفعيل مسعاه في اقناع ايران بالاستجابة للمبادرة التركية ndash; البرازيلية.
واقع الحال ان تصدر تركيا يزيح إيران عن الواجهة، وفي هذه الإزاحة ما يجعل الإذرعة الإيرانية في المنطقة أقل قدرة على الفعل. بل يمكن القول ان الهجوم التركي على السياسة الإسرائيلية اثمر انقلاباً في المعايير منذ اللحظة الأولى. حيث وجدت إسرائيل نفسها في موقع من يسعى إلى التخريب، في وقت كانت طوال زمن الهيمنة الإيرانية على مقاليد الصراع مع إسرائيل، تقع في موقع المنضبط تحت سقف الرغبة الدولية.
تركيا تتصدر المشهد، وإيران إلى الخلف. في النتائج الأولية لهذا الإنقلاب، ثمة تصحيح لمسار الصراع كان طوال الزمن الماضي مقلوباً. إنها المرة الأولى منذ سنوات التي يعاد فيها تصويب البوصلة حيث تتصاعد الأصوات الدولية والعربية مطالبة إسرائيل بفك الحصار عن غزة. قبل ذلك اجتهدت حركات المقاومة الإسلامية المرتبطة بإيران إلى نقل الصراع من الجبهة الإسرائيلية إلى الجبهة المصرية. حتى بدا ان مصر هي اصل المشكلة مع الفلسطينيين وليس إسرائيل. على أي حال، يجدر بنا ربما ان ننتظر تفعيلاً إيرانياً متجدداً لقضية معبر رفح. ذلك ان إيران لا تتسيد على المشهد إلا حين تنجح في قلب الوقائع والحقائق رأساً على عقب.