ما من شك ان تركيا دولة اقليمية كبيرة. هي دولة لم تخض حروباً منذ ثلاثة ارباع القرن تقريباً. وقد نجحت في استثمار سلمها المديد لتتحول من دولة تقع في قلب الشرق إلى دولة تقع على ابواب اوروبا. ثم إن تركيا هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا تعيبها أحلافها. فحلف الناتو المرذول في كل مكان لا يعيب تركيا، والعلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل لا تحرجها. بل أن بعض اقلام الممانعة العربية اخذت تبارك السياسة التركية وتأمل بتطورها خيراً. فإذا صرح رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان تصريحاً يعتبر فيه ان إسرائيل تضطهد الفلسطينيين انبرت لتحيته اقلام وحناجر. وهو التصريح الذي لا يزيد حرفاً وقصداً عن تصريحات زعماء اوروبيين كثر، ناهيك بتصريحات مصرية وعمل سعودي دؤوب. لكن الاوروبيين لا يستحقون مثل هذه المجاملة لأسباب علمها عند الممانعين انفسهم، ولا المصريين ايضاً.
إذاً نحن نتوسم لتركيا دوراً متعاظماً في المنطقة. وها ان الأقلام لا تكف عن استحضار اسماء وزراء خارجية الدولة العثمانية في آخر حقباتها، ولا يكل السياسيين عن استحضار الرابطة العثمانية مرة جديدة، بوصفها قادرة على تخليص الأمة العربية من امراضها المزمنة. أي الامراض التي ولدت مع ولادتها من رحم السلطنة العثمانية في لحظة تفككها. لكننا لا نسأل انفسنا كثيراً عن مقومات الدور التركي. فما الذي تستطيعه تركيا ولا يستطيعه غيرها؟ وما الذي يناط بها ولا يمكن ان يناط بغيرها؟
ما من شك ايضاً ان تركيا دولة مستقرة وتملك جيشاً قوياً. لكن مهمة هذا الجيش لن تتمدد نحو تحرير فلسطين. كذلك فإن الدبلوماسية التركية تجاوزت منذ زمن سني مراهقتها ولن تخوض حرباً دفاعاً عن دول عربية إذا ما تعرضت لهجوم إسرائيلي. او إذا ما تعرضت لهجوم إيراني على ما تشيع الدوائر العسكرية الإيرانية، انها في حال تعرض إيران لضربة عسكرية أميركية او إسرائيلية، فإنها، أي ايران ستعمد إلى ضرب المصالح الاميركية في دول الخليج العربي. وطبعاً ليست تركيا دولة معنية ببناء جدار فولاذي او اسمنتي على حدودها مع العراق او إيران او سوريا. وهي تالياً ليست مطالبة بدفع فواتير مستحقة في اللحظة والتو. لكن تركيا الكبيرة لا تتجاوز في كبرها وعظمتها المملكة العربية السعودية او مصر. مع ذلك ثمة دور تركي يتعاظم على حساب مصر على الأقل. ففي حين يطلب من مصر ان تساهم في تحرير فلسطين، يطلب من تركيا ان تحسن علاقاتها مع اسرائيل ليتسنى لها ان تلعب دور الوسيط بين دولة الأعداء وقلب دول الممانعة في دمشق. ما يحق لتركيا لا يحق لمصر طبعاً. شو جاب لجاب. تركيا دولة كانت في قائمة الأعداء تقريباً وها نحن قربناها إلينا أكثر مما كنا نأمل. أما مصر فدولة من الدول التي دفعت دماً واستقراراً وأزمات اقتصادية في حروبها ضد إسرائيل، وها هي الآن لا تتقدم على تركيا في المواقف والممارسات ضد العدو الإسرائيلي إلا بحيز ضئيل. المطلوب من مصر غير المطلوب من تركيا. مفهوم. لكن هذا المطلوب كان ليكون منطقياً ورائعاً وغير قابل للاعتراض لو أن تركيا اصبحت دولة تدور في فلك سوريا مثلاً. ساعتئذ يحق لنا ان نحتفل بأننا قربنا دولة كانت إلى يوم أمس تقف أقرب إلى صف الأعداء لتقف اليوم في صفنا او تكاد. لكن ما يحصل هو العكس تماماً. ثمة مديح لا يكل بمواقف تركيا المجيدة، وثمة هجاء لا يتوقف بمواقف مصر غير المشرفة. وبصرف النظر عما يجري من وقائع وتفاصيله التي تحتاج إلى مناقشات مستفيضة، إلا أن المرء لا بد له ان يتساءل مرتين وثلاث عن اسباب الاحتفال بالمواقف التركية واستعداد الممانعين الواضح للسكن تحت جناحيها، في حين ان ما يجري مع مصر يختلف تماماً. والحق ان سائلاً قد يسأل أهل الممانعة وخطباء الفضائيات، ممن تعلموا العربية على كبر، هل وفرت حركة حماس مناسبة ولم تعترض فيها على الدور المصري؟ هل نذكر حرب الشتاء الماضي، حين اصبح عنوان الحرب معبر رفح لا المعابر التي تتحكم بها إسرائيل؟ ثم هل يطلب من مصر ان تلغي اتفاقيات دولية وإقليمية لأن ما هو مطلوب منها أكبر بكثير مما هو مطلوب من غيرها؟ ولماذا يجدر بمصر ان تحضع للامتحان النضالي كل يوم، إذا كان المثال التركي المرغوب والمطلوب والممدوح ليل نهار ليس متقدماً قيد انملة على المثال المصري؟