لا احد يمنع سياسياً ام قاضياً ام صحافياً ام مواطناً عادياً من استمرار الاعتقاد بأن النظام السوري وأجهزة مخابراته مسؤولة عن اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري. مثل هذا الاعتقاد له حيثياته الموجبة. فالنظام السوري كان آمراً ناهياً في أمن لبنان يوم وقعت الواقعة. لكن هذا الاعتقاد لا يلغي الوقائع التي حفت بهذا الحدث وتلته واسفرت عنه.
يعتقد بعض اللبنانيين ان إخراج الجيش السوري تم بجهد لبناني صرف. ولا أحد يريد ان يغمط حق الذين ناضلوا في سبيل تحقق هذا الأمر. لكن ما لا يرقى إليه شك، ان الثورة اللبنانية يومذاك، توافقت مع ضغط دولي حاسم على النظام السوري ليسحب جيشه من لبنان. وهذا ما استجاب له النظام السوري يومذاك، بصرف النظر عن رغبته من عدمها. والتذكير بالضغط الدولي والعربي الحاسم، لتثبيت نقطة اساسية تتعلق بالمناقشات التي أحاطت بزيارة رئيس الحكومة اللبنانية الشيخ سعد الدين الحريري إلى دمشق. ذلك ان البعض رأى في هذه الزيارة تنازلاً في غير محله امام الضغط السوري. والحق ان الجانبين اجتمعا وتحادثا في ظل تسليم بواقع ان المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري تقع خارج نطاق عملهما ومناقشاتهما. ذلك ان تلك المحكمة التي حض عليها مجتمع دولي، وناضل من اجلها فريق واسع من اللبنانيين، لم تكن لتقوم ايضاً لولا الرغبة الدولية بإقامتها. وهذه إشارة قد تكون مفيدة في النقاش الذي سيتوالى على اللبنانيين يوماً بعد يوم. فلو افترضنا ان المجتمع الدولي لم يرغب بإقامة تلك المحكمة لكان على اللبنانيين ان ينظروا بأنفسهم في مفاعيل الجريمة ومترتباتها، ومعنى النظر هذا ان يجد شطر واسع من اللبنانيين انفسهم في مواجهة النظام السوري من غير سند دولي أو عربي. وأكثر ما يتوخاه المراقب في مثل هذه الحال، ان يرضى اللبنانيون بقسمة القضاء والقدر. او أن يستمر شطر من اللبنانيين مخاصماً للنظام السوري من دون أي سند دولي أو خارجي. وإذا ما كان النظام السوري مسؤولاً عن تلك الجريمة فإنه في غياب المحاسبة الدولية سيجد نفسه حراً في ارتكاب غيرها، وغير مقيد تجاه لبنان بأي قيد.
اللبنانيون فعلوا حسناً حين ارتضوا تدويل المحكمة للنظر في الجريمة. وبصرف النظر عن النتائج التي ستصل إليها تلك المحكمة، فإن الثابت ان القضية خرجت من يدهم. وهذا من حسن حظهم. ذلك ان يدهم قاصرة جداً عن محاسبة بعض القوى الداخلية في بعض ارتكاباتها، فكيف ستكون يدهم طويلة وثقيلة في محاسبة دولة خارجية كبيرة ولها من الأنياب والمخالب ما يكفي لتدمير البلد أمناً وسياسة واقتصاداً؟
ولو ان المجتمع الدولي تثبت بالملموس ان النظام السوري هو المسؤول عن تلك الجريمة وأراد عقد تسوية ما مع هذا النظام، مثلما كانت حال الجرائم السياسية على الدوام منذ يوليوس قيصر وحتى اليوم، فإن اللبنانيين لن يستطيعوا الوقوف في وجه إرادة دولية تنحو هذا المنحى. فمثل هذا العناد ليس في مكنة سوريا اصلاً فكيف يكون الحال بلبنان الصغير؟
لقد ناضل اللبنانيون لتثبيت مسألتين والأرجح انهم نجحوا في تحقيقهما: الأولى هي تثبيت خروج الجيش السوري من البلد بوصفه واقعة لا رجعة عنها. والثانية هي تثبيت المحكمة الدولية للنظر والحكم في الجريمة التي أودت بحياة احد اهم زعماء لبنان في العقود الأخيرة.
من غرائب الحياة السياسية اللبنانية ان ثمة قوى سياسية نشأت، برامج وأفكاراً، على مسلمة واحدة هي موالاة سوريا ونظامها، ومن غرائبها ايضاً ان قوى أخرى نشأت على الخصومة معها. لذا يشكل زوال الخصومة هدراً لمبرر وجودها مثلما بدا تفعيلها ( اي الخصومة) في السنوات القليلة الماضية يزيل قوى سياسية من المشهد السياسي ويضعف حضورها. وهذا ما يجعل هذان الطرفان يعتبران الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة اللبنانية إلى دمشق، كما لو أنها حدث الأحداث. والحال، لقد حدثت الزيارة وثمة ملفات عالقة وملفات لم تعد كذلك. وهذه حال العلاقات بين الدول جميعاً. فليس ثمة سبب للحديث عن النصر المؤزر لسوريا وهزيمة خصومها اللبنانيين. وليس ثمة سبب للحديث عن تغير في السياسة السورية تم بفعل الضغط اللبناني عليها. ذلك ان تكرار احاديث الشماتة والندم لا يتصلان بالسياسة من اي وجه. أما الذين يحبون الشماتة ويرون في الزيارة هزيمة ونصراً، فهم هؤلاء الذين بنوا سياساتهم على قاعدة العلاقة مع الخارج خصومة وتبعية، وليس لهم في الحياة السياسية اللبنانية الداخلية نصيب.