لا شك ان المسؤولين الإيرانيين فكروا ملياً قبل الإعلان عن نيتهم مباشرة البناء في المنشآت العشر. في حساباتهم التي يجرونها على نحو دقيق يعرفون ان حملة عسكرية اميركية على إيران دونها عوائق. في حساباتهم ايضاً ان اوروبا الزاعقة لا تستطيع ان تحول زعيقها قوة عسكرية. وفي حساباتهم ان اسرائيل لن تباشر حرباً ما لم تضمن موافقة اميركية شاملة من مبتداها إلى منتهاها. الكرة في الملعب الاميركي إذاً.
اجروا حساباتهم ايضاً، ورأوا ان استخدام القوة لتحجيم طموحاتهم النووية سيقابل باستخدام للقوة من جانبهم. هناك عينة مما يستطيعون فعله في الخليج، هذا ولم تتحرك جحافل الحرس الثوري وتعبر الحدود بعد. هناك عينة ممائلة في لبنان وفي غزة. وثمة من دون شك عينات أخرى من اختبار القوة الإيراني في اكثر من مكان. بعضها لا يزال في الانتظار وبعضها الآخر يستعد للمباشرة، العراق مثلاً. خلاصة مثيرة: لن يتسنى للعالم تحجيم طموحات إيران النووية او الحد منها من دون ان يغامر في إشعال حريق كبير يغطي نصف آسيا وبعض اوروبا. هل تستحق قنبلة نووية هذه التضحية؟
ايران المعسكرة تحارب تحت قيادة جنرالين، او لنقل تجيد صناعة نوعين من الحروب. من جهة اولى تنمي قدرات جيشها تسليحاً وتدريباً، ومن جهة ثانية تستطيع ان تقاتل بأجساد المؤمنين بعدالة قضيتها. لطالما اعلن المسؤولون الإيرانيون ان حب الشهادة الذي يتميز به مناصروهم ومؤيدوهم هو افتك اسلحة إيران في مواجهتها مع خصومها وأعدائها. ولطالما افتخروا، المسؤولون انفسهم، بالتقدم العلمي والتقني والسلاح الحديث الذي يتسلح به الحرس الثوري. وأخيراً السعي نحو امتلاك تقانة نووية. ايران تقاتل بالإيمان والعلم، وهي لذلك تبدو واثقة من الفوز.
لكن الأرجح ان ثقة إيران بالفوز تعود بالدرجة الأولى إلى رغبة اقليمية اولاً وعالمية ثانياً، في تجنب الحروب. ليس لخشية من انتصار، بل لأن اي قائد، على ما كان يقول روزفلت، لا يدفع بقطعاته العكسرية إلى الجبهة إلا وهو يغالب دموعه. في الجهة المقابلة تردد إيران من دون كلل: اهلاً بالحروب.
بعض المحللين الأميركيين يعتقدون ان تعرض إيران لهجوم دولي عسكري قد يعيد للنظام الذي اهتز تماسكه. وتالياً فإن النظام يراهن على نفاذ صبر الأميركيين من الحلول الدبلوماسية، ومباشرة الزحف براً وجواً وبحراً. مثل هذه الحجة تريد الإيحاء ان هزيمة إيران العسكرية ودمار مدنها سيعتبر بالنسبة لنظامها الحاكم نصراً مؤزراً. لهم في غزة ولبنان ما يدعم حجتهم. طبعاً في وسع قادة النظام الإيراني قول ما يريدون قوله، وإعلان النصر على الركام. هذا كلام ليس عليه حساب من الجهة الإيرانية. لكنه محسوب بدقة من الجهة الأخرى. فليفاضل المرء بين منطقين: منطق إيراني يفترض ان كل ما يدب على وجه الأرض وكل ما ينشأ فوقها وتحتها هو مجرد ابنية وكائنات موقتة تنتظر لحظة نهايتها بالصواريخ. وان الناس إنما يسعون في الوقت الضائع بين حربين: في الأثناء ينجبون ويتعلمون ويأكلون ويشربون، ويعبون من متع الدنيا الزائلة. ومنطق آخر يقول ان ما بني بني ليبقى، وان الحروب ليست أقداراً، وان قدر الناس ان تعيش وتسعى وان تحاول ما أمكنها الاستقرار. بين المنطقين فروق كثيرة، لكن الأهم من الفروق ان سيادة هذين المنطقين في معسكري النزاع المتعلق بالملف الإيراني يعني ان إيران امام احتمال خسارة واحدة. لكن الغرب امام احتمال خسارتين. فلو ان الحرب اشتعلت فإن تدمير المدن الإيرانية لن يضير القادة الإيرانيين، لكنهم في الوقت نفسه سيحتفلون بألحاق الأضرار بمدن الخصوم. واسوأ ما في المنطق الإيراني في هذا النزاع انه يفترض ان الخصوم يخسرون حين تتهدم مدنهم ويلقى بعض الناس حتفهم فيها، لكن الإيرانيين وحدهم هم من لا يضيرهم الموت والدمار. اسوأ ما في هذا المنطق ان خصوم إيران يتحولون أحرص على أهلها وشعبها ومدنها وحضارتها من المسؤولين الإيرانيين انفسهم.
كثيراً ما حفل التاريخ بقادة كانوا أعداء شعوبهم وبلادهم وحضارتهم. ما زلنا نذكر ان تماثيل بوذا التي فجرتها حركة طالبان لم تكن في الهند او السند، بل في افغانستان نفسها. لماذا فجرها الطالبانيون يومها وهي جزء من ثروة البلاد التي يحكمونها؟ الجواب عند المسؤولين الإيرانيين.