من الناحية الستراتيجية الصرفة تعيش الكويت اليوم في ظل أوضاع تتسم بالغرابة و التوتر و لربما حتى الإنقسام في المواقف! وفي ظل حالة دائمة من الحراك السياسي و المجتمعي و مناقشة قضايا وطنية كبرى تشغل بال المواطن و المسؤول في دولة الكويت، وقد جاءت قضية ( السفينة مرمرة ) التركية التي تعرضت لغارة إسرائيلية وكان على متنها عدد من الناشطين الكويتيين لتزيد ظلال المشهد السياسي و الإعلامي الكويتي تعقيدا و تداخلا، وطبعا لقد إنقسمت الآراء و تفاوتت الرؤى فيما حصل وكانت ردة الفعل الحكومية متضضامنة بالضرورة مع ضحايا العنجهية الإسرائيلية وكان ذلك أمرا طبيعيا في بلد عربي كالكويت كانت سياسته القومية الداعمة للشعب الفلسطيني وحقوقه هي هويته السياسية المعروفة، ولكن المشكلة تكمن حقيقة في التطرف في المواقف وفي مسايرة توجهات سياسية و عقائدية متطرفة لا تنسجم مفرداتها و لا أجنداتها و لا طبيعة إرتباطاتها الفكرية وحتى التنظيمية مع المصلحة الستراتيجية العليا في الكويت و التي تسيرها بحكم الضرورة موازين حساسة ودقيقة للغاية، وكان رد الفعل الحكومي الأول وهو الإعلان عن إنسحاب الكويت من المبادرة العربية للسلام ( مبادرة الملك عبد الله ) يحمل من صيغ الإستعجال الشيء الكثير الغير منسجم وثقل و توازن الدبلوماسية الكويتية التي لا تسيرها ردود الأفعال الإنفعالية السريعة بل المصالح البعيدة المدى دون التخلي عن الثوابت القومية و المبدأية المعروفة، فبحكم الواقع الجيوسياسي فإن الإنسحاب الكويتي المعلن من مبادرة السلام لن يشكل مفاجأة ستراتيجية على ملف الصراع العربي/ الإسرائيلي لأن الدور الكويتي في سلم المفاوضات محدود للغاية، فالكويت لا ترتبط بأي علاقة مع إسرائيل وهي بالتالي تتأثر بموقف السلطة الفلسطينية صاحبة الحق الأول في معالجة ذلك الملف الشائك المعقد، كما أن توجه الكويت نحو ذلك المنحى يمثل بالنسبة للبعض خضوعا لإرادة تيارات متطرفة معينة هي السائدة اليوم في ساحة العمل السياسي الداخلي و إضعافا من قدرة الدولة على إدارة ملف الأزمات، ثم أن هنالك حقائق ستراتيجية خاصة لا تغيب أبدا عن نظر صانع القرار الكويتي الذي لا تأخذه مشاعر الخضوع لتصفيق الشارع و تشجيع بعض القوى السياسية و الدينية وهو تقرير حقيقة أن دولة الكويت مستهدفة في عمقها الأمني وفي توجهها الإقليمي وحتى في وجودها السياسي، فقائمة المتربصين و الأعداء في حالة إتساع و توسع، و الموقف السياسي و العسكري المعقد في الخليج العربي يفرض أولوياته على الموقف السياسي الكويتي العام.

فالكويت كدولة من دول الإقليم هي من أكثر الدول المعرضة للتهديد المباشر في مصالحها الستراتيجية العليا في حال إندلاع نيران الصراع بين النظام الإيراني و الغرب بشأن الملف الإيراني كما أنها تعيش التهديد المباشر أيضا في حال إنتعاش النظام الإيراني و تمكنه من تجاوز أزمته الراهنة و تعويم نفسه، دون أن نتجاهل تداعيات الوضع الأمني و السياسي العراقي المضطرب على الأمن الوطني الكويتي، فليس سرا من أن هنالك تيارات في العراق المجاور تسعى للإنتقام من الكويت بأي وسيلة ممكنة بل أن البعثيين في العراق وهذا ليس سرا يعتبرون أن عدوهم الرئيسي و الفاعل ليس إيران و لا الولايات المتحدة بل الكويت أولا!! ويعملون بالتالي ليل نهار من اجل تنفيذ صيغ الإنتقام وهؤلاء يمثلون للأسف تيارا واسعا في العراق اليوم في ظل ضعف الحكومة العراقية وفشل النخب السياسية التعبانة هناك وحالة الفشل المطبق التي تحيق بالدولة العراقية الراهنة، الكويت بحاجة فعلية لأصدقاء وحلفاء و لسياسة و دبلوماسية قوية و متماسكة يمكنها تجنب الأزمات و إدارة ملفات الصراع بإقتدار و تحدي و ليس لسياسات عنترية و لمواقف إعلامية لماعة ثبت سقمها في الماضي و تحاول بعض التيارات ركوب موجتها اليوم، ليس من مصلحة الكويت أن تكون ملكية أكثر من الملك ؟ فهنالك موازين حساسة ودقيقة في السياسة الدولية لا تسمح أبدا بهوامش كثيرة للمناورة.

وهنالك أيضا خيط رفيع للغاية بين السياسة المسؤولة و سياسة حافة الهوية و الخضوع أحيانا لرأي الشارع أو الجري وراء العواطف يكلف الشعوب أثمانا غالية، لقد سبق للكويت ن تعرضت لمحن و شدائد كثيرة في تاريخها المعاصر، فهي تعرضت لتحديات وحتى لحالات حصار و لتهديدات أمنية مباشرة و لخطط إلغاء وجودية كما حصل مع الغزو العراقي للكويت في 2/8/1990 ولكنها خرجت من كل المحن وهي أكثر قوة و تماسك بسبب قدرة القيادة الكويتية على إدارة ملفات الصراع و ألأزمة بفاعلية و مسؤولية، وهي اليوم مستهدفة أيضا و بطريقة خبيثة من أطراف عديدة وعن طريق إستدراجها لملفات شائكة و عويصة ليس الوقت ملائم أبدا للخوض في تفاصيلها و أبعادها، الكويت على مفترق طرق و تقاطعات خطرة في ظل مشهد إقليمي ودولي متحول لا يعرف الرحمة، ومن المهم جدا أن لا تصادر التيارات المتطرفة السائدة حاليا القرار الكويتي الصائب الثقيل، فالكويت في النهاية ليست دولة كبرى وهي محدودة الإمكانيات و الوسائل وهي كيان سياسي وحضاري يسمو بالبناء و العطاء و التنمية و التقدم وليست مشروعا إرهابيا و لا مدرسة شمولية، فقدر الكويت التاريخي أن تظل تصارع الأنواء الصعبة و التحديات الشرسة، ولكن في ملفات ودهاليز السياسة الدولية ثمة ثعابين كثيرة تسرح و تمرح و تنفث سمومها.. فالحذر ثم الحذر لأن هنالك تحت الرماد وميض نار.... و الله أعلم..!..

[email protected]