استراتيجية الأمن القومى الأمريكى فى عهد أوباما
الاسبوع الماضى أعلن الرئيس الأمريكى باراك اوباما عن استراتيجية جديدة للأمن القومى فى عهده حيث جاءت معبرة عن رؤيته ومصبوغة باسلوبه البليغ ومختومة ببصامته الواضحة وكأنه هو نفسه المفكر الاستراتيجى لإدارته.ولكن هذا الاسلوب المنمق لم يجعل الشعب الأمريكى يلتف حول رؤيته الجديدة، كما أنه ليس معنى هذا أن هذه البلاغة كافية لحل المعضلات العالمية والتحديات الجبارة التى تواجهها أمريكا والمتمثلة فى حربين خارج أراضيها، واقتصاد متعثر مازال يرزح تحت أزمة عاتية، وتراجع فى صورة أمريكا وفى مصداقيتها وفى تفوقها الكاسح عالميا،وفوق كل ذلك تزايد تهديدات التطرف الإسلامى على الداخل الإمريكى حتى سجل عام 2009 اسوأ الاعوام بالنسبة لخطورة هذا التطرف على الداخل منذ عام 2001.
وبعد قراءة متأنية لوثيقة الأمن القومى الأمريكى الجديد خرجت بعدد من الملاحظات تتعلق بشخصية أوباما نفسه ورؤيته لذاته ولدولته،أول هذه الملاحظات أن أوباما لا يثق فى قدرات بلاده على القيادة العالمية ويعود ذلك فى تقديرى لشخصيته وللبيئة التى نشأ فيها وظروفه العائلية بالدرجة الأولى،فاوباما خارج جماعة الواثب التى تؤمن بأنها هى التى أسست أمريكا وتثق فى نفسها وفى قدرات بلدها وفى رسالته العالمية. وثانيا أن علاقة أوباما بالإسلام تتجاوز التعاطف أو محاولة تبريد علاقة أمريكا الملتهبة بما يسمى بالعالم الإسلامى،فاوباما لديه رؤية إيجابية بالفعل عن الإسلام تختلط فيها ذكريات الطفولة مع الولاء العائلى، ولهذا الغى أوباما مصطلحات الإرهاب الإسلامى، والتطرف الإسلامى، والاصولية الإسلامية من مفردات البيت الابيض ووثائقه ومراسلاته ومن وثيقة الأمن القومى كذلك، حتى كلمة التطرف الدينى غير موجودة فى الوثيقة بالكامل واستعاض عنها بمصطلحات التطرف العنيف والإرهاب فقط، ومن ثم اختزل التهديد الذى تواجهه الولايات المتحدة سواء فى الداخل أو الخارج فى تنظيم القاعدة، وهو اختزال مخل ومضحك ويجافى الواقع تماما، فالتطرف الإسلامى الممتد عالميا من باكستان إلى إيران إلى السعودية إلى مصر إلى افغانستان والسودان والصومال إلى دول المغرب العربى إلى اندونيسيا والفلبين... والقائمة تطول، ليس هوتنظيم القاعدة، والخلايا الإسلامية النائمة داخل أمريكا ذاتها ليست خلايا القاعدة،والعمليات الإرهابية التى حدثت فى الداخل الأمريكى أو اجهضت قبل حدوثها معظمها لم يكن له علاقة بتنظيم القاعدة بل بظاهرة التطرف الإسلامى الممتدة عالميا. وثالثا نجد أوباما يتحدث عن المنظمات الدولية برومانسية أقرب لرؤية الدكتور بطرس بطرس غالى النظرية الخالية من التعامل مع الواقع المعقد.
بعد هذه الملاحظات السريعة نعود للخطوط الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومى الجديدة والتى تتلخص فى تقديرى فى الأتى:
اولا:نهاية الحرب الدولية على الإرهاب
كما قلت فأن أوباما تجاهل تماما أى اشارة إلى كلمة إسلامى فى أستراتيجيته للأمن القومى الجديدة، ولكن ليس هذا فقط وأنما أسقط تماما مفهوم الحرب الدولية على الإرهاب والتى تحدث عنها المحللون الأمريكيون الثقأة منذ 11 سبتمبر وقالوا أنها ممتمدة لعقود، ولهذا حددت الوثيقة بوضوح الحرب الجديدة بالتصدى لتنظيم القاعدة وحرمان أعضاءه من الملاذات اللآمنة، وستكون الخطوط الأمامية لهذه المعركة كما جاء فى الوثيقة فى أفغانستان وباكستان حيث نمارس ضغطا لا هوادة فيه على القاعدة ونعطل زخم حركة طالبان ونعزز أمن وقدرات شركائنا.
ثانيا: تراجع دور أمريكا فى نشر الديموقراطية
تتبنى الوثيقة الجديدة بوضوح تراجع الدور الأمريكى فى نشر الديموقراطية عالميا،بل انها تعدت ذلك إلى إدانة هذا الدور التاريخى حيث جاء فى الوثيقة quot;الولايات المتحدة ترفض هذا الخيار الزائف بين السعى الضيق لتحقيق مصالحنا وشن حملة لا نهاية لها لفرض قيمناquot;. فى حين تبنت الوثيقة مفهوم أن الأكثر تأثيرا على العالم هو أن تعيش أمريكا هذه القيم بداخلها حتى تقدم نموجا يحتذى به للدول الأخرى،أى أن الوثيقة أخذت الاتجاه العكسى تماما لما تبنته الادارة السابقة، فبدلا من ترشيد هذا التدخل المفرط فى عهد بوش تبنت التراجع والتخاذل عن دعم شركاءها من المناضلين من آجل الديموقراطية حول العالم، واكتفت الوثيقة بكلام نظرى عن هذا الدعم ولكنها فى الواقع تبنت بوضوح العزلة الأمريكية فى موضوع نشر الديموقراطية.
ثالثا: تراجع دور مجموعة الثمانية والتركيز على دور مجموعة العشرين
لم تشر الوثيقة ولا مرة وأحدة إلى دور مجموعة الثمانية فى القيادة الأقتصادية العالمية وعوضا عن ذلك أشارت بوضوح للتعاون الأقتصادى من خلال مجموعة العشرين.
رابعا: التعاون مقدم على الأحادية
تبنت الوثيقة أيضا فكرة القيادة الجماعية للعالم، وكما جاء فى الوثيقة:ليست هناك دولة واحدة،بغض النظر عن قوتها، تستطيع التصدى لكل التحديات العالمية بمفردها. وقد اطلقت الوثيقة على ذلك مصطلح quot; تجديد القيادة الأمريكيةquot;، ولكنه فى الواقع تراجع القيادة الأمريكية ونهاية الدور الأنفرادى الأمريكى، وكان واضحا الحديث عن التعاون مع مراكز النفوذ الجديدة فى الصين والهند وروسيا علاوة على الدول التى يتزايد تأثيرها ونفوذها مثل البرازيل وجنوب أفريقيا واندونيسيان طبعا بالإضافة إلى الحلفاء التفليديين فى اوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وكندا واستراليا والشرق الأوسط.
خامسا: الحوافز مقدمة على العقوبات
قدمت الوثيقة نظام الحوافز على نظام العقوبات،فتبنت تقديم حوافز للدول التى تتصرف بمسئولية والتوسع فى هذا الاطار وعدم اللجوء للعقوبات إلا فى الحدود الدنيا عندما يتم استنفاذ آلية الحوافز تماما،معنى هذا أيضا تقديم الدبلوماسية على الحروب والحوار على الصدام وتشجيع الدول فى التخلى طواعية عن تمردها أو برامجها النووية مقابل حزمة من الحوافز المشجعة يتم الحوار حولها، ومع هذا لم تهمل الوثيقة الاشارة إلى كل من إيران وكوريا الشمالية باعتبارهما واقعيا رفضا نظام الحوافز ويتلاعبان بالحوار من آجل المماطلة وتضييع الوقت.
سادسا: الدعوة لصياغة نظام دولى جديد
ركزت الوثيقة على النظام الدولى وأشارت إلى اهمية تعاون أمريكا من النظام القديم بدلا من الخروج منه تدريجيا باعتبار أمريكا هى التى ساهمت بقوة فى صياغة هذا النظام بعد الحرب العالمية الثانية سواء على مستوى الأمم المتحدة ومؤسساتها أو على مستوى النظام الأقتصادى الدولى. والمحت الوثيقة إلى أهمية صياغة نظام دولى جديد قائما على الحقوق والمسئوليات،وبأن تكون المؤسسات الدولية أكثر فاعلية فى تمثيلها للعالم فى القرن الحادى والعشرين بأن يكون فيها صوت أكبر ومسئوليات أكبر للقوى الناشئة، علاوة على أن تحديث المؤسسات هو تعزيز الأعراف الدولية وفرض تطبيق القانون الدولى. طبعا هذا الكلام النظرى يجد صعوبة شديدة فى تطبيقه عالميا، فالنظام الدولى اقامه المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن هناك صعوبة فى إعادة تشكيله ثانية بدون حرب جديدة تحدد القوى الجديدة فى العالم.
وأخيرا: إنقلاب شبه كامل عن الرؤية التى سادت منذ 11 سبتمبر
هذه الوثيقة الجديدة فى تقديرى هى انقلاب شبه كامل عن الرؤية الاستراتيجية التى سادت منذ 11 سبتمبر 2001 حتى فى الاولويات التى يواجهها الأمن العالمى مثل أمن الانترنت والبيئة والمناخ وانتشار الاسلحة النووية، ولم يبرز الإرهاب باعتباره التحدى الرئيسى لأمن الولايات المتحدة وأنما جاء كواحد من هذه التحديات، ولهذا جاءت تسمية الوثيقة quot; مراجعة استراتيجية الأمن القومىquot; وهى فى الحقيقة انقلابا عليه، واثناء قراءتى للوثيقة اشعر أننى اقرأ مقالة لاوبأما، فهى تعبر تماما عن أفكاره واسلوبه وروحه.
والسؤال هل الوثيقة تعبر حقيقة عن الرؤية الأمريكية الحقيقية، رؤية الشارع والقوى المختلفة، والاتجاه المحافظ، وحزام التدين فى الجنوب.
الأجابة: الكثير مما جاء بها فى تقديرى لا يعبر عن هؤلاء.
التعليقات