المتابعون لمجرى الإنتخابات المصرية من إنتخابات الرئاسة إلى إنتخابات المحليات يدرك إنها محكومة بسمات محددة، فهى تتسم بالتهريج والتزوير والتدليس والبلطجة والفساد والدعاية الدينية المضللة الصاخبة، ولهذا كل من يشارك بالمنافسة فى انتخابات الرئاسة القادمة عام 2011 فى ظل هذه الأوضاع المانعة، فى مواجهة الشخص الذى تحدده عائلة الرئيس مبارك سواء كان الرئيس أو نجله أو أحد المقربين منه، هو شخص مهرج أو يقوم بدور المحلل أو من أصحاب الصفقات السياسية الصغيرة أو من هم على شاكلة النظام واخوته فى الرضاعة.
عندما يأتى الدكتور محمد البرادعى وينبه الناس إلى كيف تكون المنافسة الحقيقية هو لا يضع شروطا وأنما يطالب بالوضع الطبيعى المتعارف عليه فى الديموقراطيات العريقة أو النامية على حد سواء والذى يعرفه جيدا حتى المبتدئين فى دراسة النظم السياسية. من هنا نقول أن الذى يضع الشروط والقيود الشاذة هو النظام، بل ولا يستحى المحيطون به والمنتفعون منه من ممارسة هذه البلطجة والعصبجية والشللية فى مواجهة أى شخص جاد لمجرد أنه ينبه للأوضاع الطبيعية.
البرادعى يدرك جيدا ما نحن فيه ووصفه بدقة quot; نحن وصلنا لمرحلة الحضيضquot;،وما قاله البرادعى يعرفه كل متابع نزيه للشأن المصرى،بل وبعض ممن شاركوا فى هذه الأوضاع وهو الأستاذ أنيس منصور قال للمصرى اليوم بتاريخ 1 ديسمبر 2009 quot;مصر أصبحت كجسد استفحل فيه المرض،لدرجة أن التفكير فى العلاج بأت نوعا من الترف، والبكاء والدعاء لله ليشفيها بات نوعا من الترف...حالة ميؤوس منها، فمهما أمددنا هذا الجسد المنهك بالمرض بالدواء فإنه لن يجدى، والسبب أننا ببساطة أمة أنتهى عمرها الأفتراضىquot;، ومن قبله قال أحد المشاركين فى صنع هذه الحالة وهو الأستاذ هيكل كلاما مشابها لكلام الأستاذ أنيس منصور.نحن إذن فى الوحل والطين والذين يطالبون البرادعى بالإذعان للشروط المصرية فى الترشيح يطلبون منه بصراحة أن يلعب معهم فى الوحل والطين... فمن نلوم إذن؟ الذى يطلب منهم أن يخرجوا من هذا الوحل أم الذين يقولون علنا أن الشخص النظيف لا يناسبنا وأننا لا نتعامل إلا مع الملوثين؟.
تعالوا نتناول الاعتراضات الثلاثة الرئيسية المتداولة من خلال حملتهم المنظمة ضد البرادعى لنعرف كيف يصنع التضليل فى مصر.

الاعتراض الأول: البرادعى مزدوج الجنسية
صرح المستشار محمد الدكرورى امين القيم والشئون القانونية بالحزب الوطنى quot; رئيس مصر لا بد أن يكون مصريا خالصا، أى غير حامل لأى جنسية أخرى ود. البرادعى يحمل الجنسية النمساوية والدستور المصرى محدد بشروط معينة لرئيس الجمهورية اعتقد انها لا تنطبق على د. البرادعىquot;، أما صحيفة الجمهورية فقد خرجت بعنوان عريض يقول quot; رئيس سويدى لمصرquot;، أى أنهم لا يعرفون أى جنسية يحملها الرجل بخلاف الجنسية المصرية، وهم يستطيعون معرفة ذلك بسهولة لو ارادو من خلال الجوازات المصرية... ولكن الحقيقة أن دكتور محمد البرادعى لا يحمل سوى الجنسية المصرية، وقد قال ذلك هو بنفسه فى حواره مع منى الشاذلى quot; عمرى ما كان عندى جنسية إلا الجنسية المصرية، ومعتقدش هيكون معايا جنسية أخرىquot; وهو صادق فيما يقول، والبينة على من أدعى كما يقولون، ولو كان البرادعى يحمل جنسية أخرى فما هى؟ وما هو دليلكم على ذلك؟.
والحقيقة أن البرادعى لا يحمل فعلا سوى الجنسية المصرية لأنه صادق فيما يقول، ولأن معظم المصريين العاملين فى المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ووكالاتها والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى يرفضون حمل جنسية أخرى بجانب جنسيتهم المصرية وذلك لأسباب نفعية بحتة، لأنهم إذا حملوا جنسية أخرى تسقط عنهم ميزات عديدة منها أن يدفعوا ضرائب على دخولهم وهم معفيين من دفعها إذا تمسكوا بالجنسية المصرية فقط لأنهم فى هذه الحالة يعاملون كأجانب مقيمين يعملون فى مؤسسات دولية، ولأنهم يحصلون على مزايا أخرى ومنها تذكرة سفر كل سنتين مجانية لهم ولأسرتهم لزيارة بلدهم مصر، وكذلك تدفع المؤسسة الدولية جزء كبير من مصاريف تعليم اولادهم... كل هذه المزايا الهامة تسقط إذا حصل الموظف الدولى على جنسية البلد الذى توجد فيه المؤسسة الدولية، ولهذا حسب علمى كل من اعرفهم يبقون على جنسيتهم المصرية فقط فى حين يحصل الأبناء على جنسية مزدوجة، وبعد الخروج على المعاش يحصلون على الجنسية الاجنبية.
والجنسية الأجنبية ليست عارا ولا يجب أن تكون عائقا أمام الترشيح للمناصب السياسية، ولو كانت كذلك لما حصل عليها بعض كبار المسئولين الحاليين والسابقين فى مصر وتهافت معظمهم عليها، ولما حصل عليها كذلك معظم أبناء المسئولين واحفادهم، ومع هذا فأن هذه الحجة البليدة سقطت من على البرادعى لأنه لا يحمل فعلا سوى الجنسية المصرية.

الأعتراض الثانى: البرادعى ليس لديه خبرة سياسية
يقول الدكتور مفيد شهاب quot; الدكتور البرادعى عالم جليل ولكنه لا يصلح لمنصب رئاسة الجمهورية لأنه يفتقر إلى الخبرة السياسية والحزبيةquot;، وما قاله مفيد شهاب ردده الكثيرون من جوقة الحكم فهل هذا كلام صحيح؟.
فى تصورى هذا الكلام عجيب فإذا كان دبلوماسى مصرى عمل فى أهم سفارتين لمصر فى الخارج فى نيويورك وجنيف، وعمل مساعدا لسنوات لوزير الخارجية الأسبق إسماعيل فهمى، ثم دبلوماسى دولى مرموق وصل لأعلى المناصب، واستاذ للقانون الدولى بجامعة نيويورك لمدة ست سنوات، وآهلته سمعته الدولية المتميزة للحصول على العديد من الجوائز المرموقة ومنها جائزة نوبل، وحاصل على 13 دكتوراة فخرية من جامعات بارزة متواجدة فى قارات الدنيا المختلفة،فإذا كانت كل هذه الخبرات المصرية والدولية لا تحتسب عند هؤلاء خبرة سياسية تصلح لإدارة دولة صغيرة مثل مصر فماذا تكون الخبرة السياسية إذن؟. لن اذهب بعيدا واقول ما هى خبرة اوباما وهو يرأس اهم دولة فى العالم سوى أربع سنوات كعضو فى الكونجرس؟ ولكنى اجرؤ واتسائل ما هى خبرة الرئيس مبارك عندما اختاره الرئيس السادات كنائب للرئيس؟ البعض يلخص هذه الخبرة فى كلمة quot; سواق طيارةquot;. وما هى خبرته بعد 28 سنة فى حكم مصر؟ الاجابة خبرة سلبية حيث اكتسب سمات وخبرة الدكتاتوريين.وهل معمر القذافى الذى يصنف من اقدم رؤساء العالم يملك أى مؤهلات للحكم بعد هذه العقود فى إدارة دولته؟، وهل جمال مبارك يملك أصلا خبرة سياسية ذو قيمة وهو ما وصفته مجلة أمريكية مرموقة وهى مجلة اتلانتك مانثلى بأنه متوسط الذكاء ولولا والده لتم فصله من بنك اوف أمريكا فى لندن؟.إلا يستحى هؤلاء الذين يتحدثون عن مؤهلات وخبرة البرادعى وهم يروجون لجمال مبارك رغم الفارق الشاسع بين الشخصيتين؟.

الإعتراض الثالث: البرادعى لا يمثل الشعب المصرى
يقول الدكتور عبد المنعم السعيد عن البرادعى quot; اراء واصوات قادمة من جماعات مصرية لا يوجد مقياس واحد يقول بانها تمثل حتما الشعب المصرىquot;، كلام عجيب من مفكر ليبرالى بارز يتهم هو ذاته بأنه لا يمثل الشعب المصرى وبأنه متأمرك، فمن هو الذى يمثل الشعب المصرى يا ترى؟، وهل المطلوب البحث عن شخصية شعبوية أم البحث عن شخص يرتقى بالشعبوية إلى مصاف التفكير العقلانى الرشيد الحر المعتدل الحداثى بعد أن عانينا من الشعبوية على مدار ستة عقود؟. إن عبد المنعم سعيد ومحمد البرادعى ينتميان إلى مدرسة واحدة هى المدرسة الليبرالية الحداثية، وما حماسى للدكتور البرادعى سوى لأنه ابن بار لهذه المدرسة والتى أرى إنها الآمل لإخراج مصر من هذا الحضيض، ولو ترشح عبد المنعم سعيد للرئاسة لكنت أول شخص يترك واشنطن لينضم إلى حملته الإنتخابية، وهو يعلم جيدا أن البرادعى لا يفرض شروطا مسبقة وأنما يطالب بما نطالب به جميعا وفى المقدمة عبد المنعم سعيد ذاته، ولهذا فالبرادعى صوتنا جميعا وليس صوتا قادما من الفضاء الأفتراضى كما تقول يا دكتور عبد المنعم. والبرادعى ليس غريبا عن مصر فقد ولد وتعلم وعاش وعمل بها، ثم هو يزورها بشكل منتظم سنويا هو وعائلته وعلى دراية باوضاعها لأنه يحتك بالشارع كرجل عادى وليس محميا باسطول من الضباط المدججين بالسلاح وبالسيارات المصفحة، ولا هو شخص نما وترعرع فى حضانة مثل زراعة الصوبات المحمية.والبرادعى قدم حصته المالية فى جائزة نوبل لأبناء بلده الفقراء فى حين أن الكل يعلم فساد الحكم وشلته والمليارات المنهوبة من هذا الشعب الغلبان والمودعة فى بنوك سويسرا وانجلترا والمانيا وفى شركات الاستثمارات المالية البريطانية والأمريكية وفى الثروات العقارية فى منهاتن وكاليفورنيا ولندن وباريس ومدريد ودبى.

البرادعى والآمل المستحيل
ما طرحه الدكتور محمد البرادعى فى بيانه الرائع يشبه ما طرحه أستاذنا الراحل سعيد النجار عندما عاد من غربته فى البنك الدولى فى اوائل التسعينات من القرن الماضى، ومثل ما طرحه مفكر مصرى مرموق آخر هو الراحل الدكتور إبراهيم شحاته فى كتابه quot; وصيتى لبلادىquot; وهو كان نائبا لرئيس البنك الدولى أيضا. ومنذ عشرين عاما لم اجد نفسى متحمسا لشخص سوى لسعيد النجار ومحمد البرادعى لأنهما يجسدان الآمل فى دولة مدنية حداثية متقدمة الدين فيها لله والوطن للجميع وترتكز على بناء دولة مدنية عصرية تقوم على الحداثة والاعتدال والحكم الرشيد، وتستند لدستور عصرى جديد يقوم على كفالة الحريات وحقوق الإنسان المتفق عليها عالميا، دستور يفصل بين السلطات ويحترم دولة القانون ويضع إطار لنظام سياسى واقتصادى واجتماعى قائم على تمكين الشعب رجالا ونساء، وعلى مشاركة الجميع بكافة اطيافهم وانتماءاتهم، واحترام الأغلبية وحماية الأقلية، مجتمع يقوم على أحترام حرية الرأى وحرية العقيدة والتحرر من الخوف ويضمن حق كل إنسان مصرى فى حياة حرة كريمة آمنة كما جاء فى بيان البرادعى.
وللأمانة فان معظم من يحملون هذه الرؤية العصرية الواضحة لمصر يعيشون فى الخارج فى مجتمعات متقدمة ويريدون نقل تجربة هذه المجتمعات الناجحة لوطنهم الأم، ولهذا لم يكن مستغربا أن يرشح الأستاذ هيكل محمد البرادعى واحمد زويل ومجدى يعقوب وحازم الببلاوى وكلهم يعيشون خارج مصر منذ عقود.
ولكن مما يؤسف له أن القوى السلبية والمخربة التى تجذب البلد للحضيض هى السائدة فى مصر حاليا، سواء كانت قوى الأغلبية أو المعارضة احزبا وحركات وجماعات، ولهذا أيضا فأن مصر تتجه إلى مصير مظلم شبه مؤكد، يتفق على تشخيص هذا معظم الخبراء العالميين المهتمين بالشرق الأوسط، ولهذا أقول أن ما طرحه البرادعى وأمثاله من المفكرين الحداثيين هو الآمل المستحيل.
[email protected]