(5)
استجواب عن بعد قبل الغياب النهائي

هل صحيح قول العرب (إنّ من الحب ما قتل)؟ وتصرّ إحدى الماجدات على تذكيري بالقول:
أيا جارتا إنّا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب
وأنا أصحح لها وللشاعر فأٌقول: (وكل غريب للغريب حبيب). وتسألني بعد وصال ووئام منقطعي النظير طوال ثلاثة عقود: من أنت ؟ أجب بصراحة..لا تكذب..لا تبالغ..لا تخجل من ظروفك الحياتية..هل فهمت صراخي؟ هل اخترق أذنيك أم قلبك؟. ماجدتي يا من منحتي بؤسي مجدا وشقاءي فرحا وغفوتي صحوا، لماذا أخجل؟ إسمعي لي بقلبك أولا ثم مرّري ما ستسمعين على عقلك، وبعدئذ قرّري الغياب أو النسيان أو الاختفاء في منفاك البعيد عن منفاي، ورغم ذلك وأيا كان قرارك ف (كل منفى لي أجمل من وطن كل من فيه منفيون ومصادرون ومغيبون).

أنا من مواليد بير السبع عام 1944 أي قبل ما أسماه العرب النكبة بأربع سنوات. كنت طفلا ورغم ذلك أتذكر بيوت الشعر التي كانت عشيرتي تسكنها كقبيلة بدوية. أتذكر الجمال والخيول التي كانوا يحرثون عليها الأرض ويزرعون القمح والشعير. المدهش الذي أتذكره هو ما يشبه المساواة الرائعة بين الرجل والمرأة آنذاك، يعملون معا في الحقول والبيوت، ومن الطبيعي أن تلد المرأة البدوية آنذاك طفلها وهي في الحقل بدون ممرضات أو مستشفيات. مساواة واحترام قبل سبعين عاما نفتقده اليوم في ثقافة عربية أحيت من جديد تخلف اسمه (خلقت المرأة للخلف والعلف) أي للمطبخ والسرير. أتذكر عندما هاجرنا أو هربنا أو نزحنا أو لجأنا إلى مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة مشيا على الأقدام طيلة ليلتين ويوم. طفولة تعيسة قاسية فقيرة معدمة. سنوات ونحن نعيش على ما تقدمه وكالة الغوث من طحين وأرز وحليب مجفف. ولكن أباءنا وأجدادنا غرسوا فينا مقولة(سلاح الفلسطيني شهادته) لذلك فأسرتي الفقيرة المعدمة بلا حدود خرّجت ثلاثة أفراد دراسات عليا من جامعات القاهرة أنا واحد منهم.

وتصرين أيتها الماجدة أن تتذكري ما أحاول أنا نسيانه وتسألينني وكأنني في محضر رجل شرطة:ماذا أضاف لك والدك الشيخ عطيه أبو مطر (المتعلم الوحيد فى عشيرتكم والحافظ للقرآن الكرم)؟ وأتخيل أنك تعدين فعلا محضرا ووثائق لمحاكمة قادمة. ولكن ليس لديّ ما أخفيه، فلم يبق من عمري أكثر مما مضى فممن سأخاف؟ لذلك سأقول معترفا بصراحة ستدهشك أنت ومن تعدين التقرير له أو لها..لا أدري.

والدي الشيخ عطية أبو مطر رحمه الله، غرس فيّ الاجتهاد والصدق اللذان ينسجمان مع روح الدين الإسلامي قبل أن يلوثه الدعاة المرتزقة أصحاب فتاوي التيك أوي. كان يفتخر بنا عندما نحفظ سورة من القرآن ويشدّ اذنينا عندما نتقاعس ولا نقوم بواجباتنا المدرسية والبيتية. كم كان مثيرا أن تجتمع العشيرة كل مساء في بيتنا في المخيم فيما يسمى (المضافة) ويبدأون النقاش في كل مسائل الحياة وكأنهم في برنامج الاتجاه المعاكس آنذاك. وعند وقت الصلاة يقوم والدي ليؤم بهم الصلاة، ويفتحون بعد ذلك الراديو ليعيشوا لحظات المجد الخطابية من إذاعة أحمد سعيد في صوت العرب، التي غرّست جذور المبالغات العربية والنضالات الخطابية التي تغذي عواطف الجماهير الغفورة لكل ما يسيء لها ويحتقر كرامتها.

جيد..هذه بدايات دخولك لقلبي قبل عقلي..وماذا أيضا، احكى لنا ما تيسر عن الحياة فى مخيم رفح أيام الصبا والشباب كي أقارن هل هي تشبه حياتي ومخيمي إن وجد أو إن تجرأت مثلك على قول الحقيقة العارية هكذا!!!؟

درست في مخيم مدينة رفح المرحلة الإبتدائية، والسنة الأولى من المرحلة الثانوية، ثم انتقلت لمدينة خان يونس القريبة لإكمال آخر سنتين من المرحلة الثانوية. من يتصور اليوم أنني وأقراني من جيلي كنّا نذهب مشيا على الأقدام كل صباح ثمانية كيلومترات لمدينة خان يونس ثم نعود مشيا على الأقدام. كل ذلك كي ندرس ونحصّل الشهادة الثانوية. في آخر سنّة عملت خادما في مقهى لأكسب ما لا يزيد عن خمسة قروش مصرية في اليوم. ولكنها كانت بقيمة مائتي دولار اليوم. كان الخلاف الفلسطيني والتشرذم مزروعا من ذلك الوقت. فلم أكن أجرؤ أن أقول أنني (غزّاوي) فأنا لاجىء إلى غزة. أتذكر أنّ أعشاب (الخبيزة) كنّا نأكلها شبه يومي بعد طبخها، لأنها الأعشاب الوحيدة المسموح لنا دخول مزارع وحقول الغزاويين وجمعها، وهي فائدة مشتركة، نحن اللاجئون نجمعها لنأكلها مجانا، وفي الوقت ذاته ننظف لهم حقولهم ومزارعهم مجانا. من يتصور أنني وجيلي أنهينا المرحلة الثانوية ونحن نقرأ على لمبة الكاز إذ لا كهرباء في المخيم حتى بداية السبعينيات. صبا وشباب كله فقر وحرمان وتعاسة لكنه علّمني التحدي والشجاعة وعدم الخوف في قول كلمة الحق، خاصة تكرار الشيخ عطية أبو مطر رحمه الله لمقولات وأحاديث مثل (لا يخاف في قول كلمة الحق لومة لائم)، و (أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر). من الذكريات المؤلمة أيام العدوان الثلاثي عام 1956 الذي تمّ فيه احتلال القطاع عدة شهور، وانسحبت منه اسرائيل في السابع من مارس 1957 بضغوط الإدارة الأمريكية في زمن الرئيس أيزنهاور، وسمّاه لنا الرئيس جمال عبد الناصر عيد النصرّ!!!.وبقينا نحتفل بنصر إيزنهاوري حتى الخامس من يونيو 1967 لتبدأ هزيمة، نكبة، نكسة، مصيبة،كارثة جديدة. زاد نكستها ومرارتها أنّ جمال عبد الناصر يعلن استقالته متحملا مسؤولية النكسة الهزيمة، فتخرج الجماهير الغفورة المخابراتية المنكوسة، تتظاهر بالملايين في بلاد العرب أكفاني، مطالبة إياه بالعودة عن الاستقالة، وكأنها تقول له: نريد المزيد من النكسات والهزائم يا ريس.

لماذا تفتح جروح النكسات؟ ألم تكن في مصر قبلها وحينها؟
ماجدتي...ألم أوقع معك معاهدة كامب ديفيد جديدة تقول (الغريب للغريب حبيب). أنا أفتّح الجروح أم أنت تتحدين أو تختبرين صدقي وتسألين؟ تلك المرحلة هي مرحلة التحدي الحقيقية التي لا أصدق ما أنجزته فيها. لا أصدق أن اللاجىء الفلسطيني الفقير لدرجة العدم من مخيم رفح، يصل إلى القاهرة في مطلع العام 1961 بعد حصوله على القبول في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، في زمن العباقرة الذين تعلمت ودرست ونهلت من علمهم. لا أصدق حتى الآن أنه درّسني عباقرة أمثال الدكاترة والأساتذة: شوقي ضيف، سهير القلماوي، شكري عياد، يوسف خليف، عبد المحسن طه بدر، محمد زكي العشماوي، وعبد المنعم تليمة وآخرون في مستواهم. وصلت للقاهرة لأدرس ومصاريفي من المنحة الدراسية من إدارة الحاكم العسكري المصري للقطاع في زمن الفريق المرحوم يوسف العجرودي، منحة أربعين جنيها في العام الدراسي تكفيني ثمانية شهور، إلى أن حصلت على الليسانس من قسم اللغة العربية بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف الأولى. ثم درست الماجستير في القاهرة، وعملت في الكويت سنوات جمعت ما يكفيني للتفرغ لدراسة الدكتوراة في جامعة الإسكندرية بإشراف المرحوم الدكتور محمد زكي العشماوي، وحصلت على درجة الدكتوراة في منتصف عام 1979، وكان موضوع أطروحتي (الرواية في الأدب الفلسطيني). تعرفت في ذلك الزمن الجميل على زملاء دراسة أصبحوا من مشاهير الثقافة والإبداع المصري مثل الدكتور جابر عصفور والشاعر حسن توفيق وغيرهما. كما زاملت وعرفت عباقرة مثل الشاعر أمل دنقل،أحمد فؤاد نجم،فرج فودة، صلاح عبد الصبور، رجاء النقاش، فريدة النقاش، ومحمود عوض عبد العال وغيرهم. أيامي في مصر هي أيام الإنتاج والتحصيل المثمر، لذلك أشعر بأنني أنتمي لمصر وثقافتها وابداعها، وهذا ما يجعلني لا أغيب سنة عن زيارة مصر، وأحيانا عدة مرات كل سنة.
إذن هذا هو ما يفسر وجودك في مصر اليوم أيها النسيب أو القريب أو الحبيب.اختر ما تريد من هذه الصفات أو ما يدغدغ عواطفك منها. هل وجودك في هذا المكان هو من دوافع ما قرأته في الصحافة عن هجومك المتكرر على إيران وتركيا وإصدارك بعض الكتب عنها؟ هل صحيح خبر صدور كتاب لك مع آخرين بعنوان (الخطر الإيراني، وهم أم حقيقة؟). الآن سأختبر مصداقيتك فإما أن تستمر نسيبا وقريبا وحبيبا أو أضعك في خانة (البعيد) الذي ما عرفته ولن أتذكره إن استطعت..آه ماذا تقول..هل تجرؤ على الاعتراف أمام الماجدة التي تسكب دموعا وحبرا من منفاها البعيد عن منفاك والقريب من غربتك؟ هل ينقصنا عداوات جديدة تثيرها في كتاباتك؟ أم أنّ لديك ما تدافع به عن هذه الأراء..أجبني قبل أن أصدر فتوى بتحريم كتاباتك وأنت في القاهرة وأضعها جنبا إلى جنب مع quot;ألف ليلة وليلةquot;.
أحتاج للتفكير في هذه المرافعة..أعطني وقتا وسأجيبك بصراحة أكثر من صراحة الليلة الأخيرة من تلك الألف المثيرة، وأعدك أن لا ألجأ لحيلة شهرزاد وشقيقتها دنيازاد في خداع الملك الشهواني القاتل شهريار رغم توبته عن قتل النساء بسبب سحر القصص الشهرزادية...تخيلي يا ماجدة ما أسهله لو تمكّنا من جمع الحكام العرب مع شهرزاد ودنيازاد عربيتين، يقمن بقصّ القصص المسلية المثيرة الشهوانية عليهم، فمن الممكن أن يتلهوا بهذه القصص عن قتل شعوبهم....ومما سمعت أن هناك قضية جديدة ربما تصل لمحكمة العدل الدولية وهي: هل ألف ليلة وليلة قصص عربية أم هندية أم فارسية....فليجمع كل طرف أدلته انتظارا للاستجواب القادم..وكل ألف ليلة قادمة ونحن غرباء في المنفى الذي هو أجمل من الحياة مع quot; أثرياء الأنفاق quot; في غزة و quot; أمراء الأمن في رام الله quot;.
[email protected]