كانت مقالتي السابقة quot; الجدار الفولاذي بين الشريعة والسياسةquot; محاولة لعرض تناقض فتاوي وأحكام الشيوخ العرب المسلمين بخصوص الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على حدودها مع قطاع غزة، وكان هذا التناقض صارخا من محلل للجدار مكفر لمن يرفضه، ومحرم للجدار مكفر لمن يقبله ويبرره، وقلت في نهاية المقالة المذكورة quot; أنّ الحل هو في الوسطية التي يعبر عنها مفتو وشيوخ الدول الإسكندينافية كي توفق بين فك الحصار عن قطاع غزة والمحافظة على السيادة والأمن المصري quot;. فإليكم هذا الحل الوسطي كما نراه ونعتقد به نحن شيوخ و دعاة الدول والممالك الاسكندينافية، ويعزز ذلك أننا نحن شعوب اسكندينافيا من أشد الشعوب تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وتربطنا علاقات طبيعية وجيدة مع الشعب والحكومة المصرية، ونرى أن هذا الحل الوسطي (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) يحقق رفع الحصار عن قطاع غزة ويحافظ على السيادة والأمن المصري.

أعتقد أن الموضوع أسهل من
كل التعيقدات التي أضافها أهل الشريعة والسياسة من الطرفين الرافض والمؤيد للجدار، لأنه من حق الحكومة المصرية ممارسة سيادتها على أراضيها بما ترتأيه لمصلحتها ومصلحة شعبها، وأيضا من حق الشعب الفلسطيني في القطاع على إخوته وبني قومه في الحكومة المصرية أن لا يسهموا في حصاره بل تخفيف هذا الحصار قدر الإمكان، خاصة إذا كانت الحكومات تعبر عن رأي شعبها، فالمتابع للموضوع يستطيع أن يرصد رفض غالبية الرأي العام المصري لبناء هذا الجدار الفولاذي الذي لا يخدم سوى أمن إسرائيل مقابل حصارها وتجويعها لمليون ونصف المليون فلسطيني في القطاع، وهو مرفوض بكل المعايير السياسية والأخلاقية في زمن الحرب والسلم، خاصة أن مصر تتحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية اتجاه قطاع غزة كونه أحتل من قبل إسرائيل في يونية عام 1967 وهو واقع تحت ما كان يسمى (إدارة الحاكم العسكري المصري) الذي كان في ذلك الزمن المرحوم الفريق يوسف العجرودي.
لذلك فالحل السياسي الوسطي يكمن في التركيز على أسباب ودوافع الحكومة المصرية لبناء هذا الجدار، وهي كما أعتقد تتركز فقط في تهريب السلاح وليس المواد الغذائية والطبية والتموينية، وذلك بحكم التزاماتها المتعلقة باتفاقية السلام والصلح الموقعة مع إسرائيل وما يتبعها من التزامات دولية مثل خلو سيناء من السلاح وغير ذلك. لذا وكون حركة حماس المسيطرة والحاكمة للقطاع لا تطلق الرصاص على إسرائيل وتعتقل فعلا من يقوم بذلك، وتطالب من غزة بهدنة طويلة الأمد لمدة ستين عاما، بينما خالد مشعل يعلن لوسائل الإعلام الأمريكية الشقيقة عن قبول حركته لدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967، فيمكن إن حسنت النوايا وتحسنت العلاقات، أن يتم التنسيق بين حركة حماس والحكومة المصرية بجدية وصدق على منع تهريب السلاح الذي لا يستعمل، مقابل تنظيم علني مبرمج لدخول المواد التموينية والطبية وكافة مستلزمات الحياة اليومية لمليون ونصف فلسطيني في القطاع. ويعقب ذلك فتح معبر رفح بشكل دائم لحركة الخروج والدخول كما كانت قبل ثلاثة سنوات حتى ولو بإشراف إسرائيلي ودولي، لأنه من غير المنطقي تحويل القطاع كما هو عليه الآن لسجن كبير، حيث فقد المئات من الشباب مقاعدهم الدراسية في الخارج، ومئات آخرين وظائفهم لتصادف زيارتهم لذويهم مع إغلاق المعبر، وهناك مئات المرضى الذين يحتاجون لعلاج غير متوفر في مستشفيات القطاع، وعندئذ لا يعود مهما هل أقيم الجدار الفولاذي أم لا، فالكل يريد العنب وليس مقاتلة الناطور، والعنب هنا هو الغذاء والدواء والكهرباء و أدوات البناء للشعب الفلسطيني في القطاع.

إن وقف الحملات الإعلامية المسعورة ضد مصر،
أمر ضروري كي تعود كل الأطراف لحوار العقل الذي من المؤكد سينتج عنه ما هو في مصلحة السيادة المصرية وتخفيف الحصار عن الشعب الفلسطيني في القطاع، ومما سيسهم في ذلك هو تحكيم المصلحة الفلسطينية لدى حركة حماس تحديدا للوصول لمصالحة فلسطينية حقيقية بناءا على الورقة المصرية التي طالت المباحثات حولها، ليس حرصا على المصلحة الفلسطينية بقدر ما هو استمرار السيطرة والكرسي والنفوذ، فلا يفهم أي فلسطيني هذا الخلاف الفتحاوي الحمساوي، والطرفان لا يطلقان الرصاص ويعتقلان من يقوم به، إذن على ماذا تختلفون؟. وعلينا التذكر أنه قبل سيطرة حماس على القطاع كانت حياة الفلسطيني أكثر سهولة عبر المعابر المفتوحة أغلب الأوقات، والتنقل عبرها إلى مصر لكل من لديه أسباب رسمية مثل شهادات الدراسة والعمل في الخارج أو العلاج في مصر...إلخ هذه الأسباب. في الدول الديمقراطية تستقيل حكومة أو وزير لحادث قطار أو طائرة، أما حركة حماس فهي متشبثة بالكرسي والسلطة والسيطرة رغم كل ما جرّه انقلابها العسكري من ويلات على شعب القطاع...فإلى متى؟ وأين علماء الشريعة الإسلامية الأشاوس؟ لماذا لا يصدرون فتوى بهذا الخصوص؟ هل يجوز لسلطة أو حركة أن تستمر في الحكم والسيطرة ووجودها لا يسهم في تحرير وطنها، بل يلحق الخسائر الجسيمة بشعبها كما نرى في القطاع منذ ثلاثة سنوات؟.

وإلا فليسكت الشيوخ والمفتون،
لأن الخطورة الناتجة عن هذا الخلاف الشرعي وإقحام الدين في أمور سياسية لا علاقة لها بفروض الإسلام الأساسية، يسبب الضرر والتشتت والفرقة كونها تطال الملايين من البشر في مختلف البلدان والأقطار باسم الإسلام، فالمتظاهرون ضد الجدار في عرف الشيوخ المحللين والداعمين له يعتبرون بالنتيجة مخطئين وضالين لأنهم يتظاهرون تأييدا لباطل ومحرّم، وهؤلاء المحللون والداعمون للجدار يعتبرون في عرف الآخرين على باطل وضلال، وبالتالي تكون النتيجة أن كل الأمة شعوبا وشيوخا وحكومات على باطل وضلال. أبعدوا الدين عن أمور السياسة، وليحتكم أصحاب السياسة لمصلحة الشعوب عبر حوار هادىء بعيدا عن هذه الحملات الإعلامية المسعورة التي تعيد للذاكرة حملات داحس والغبراء الكروية. إبدأوا حوارا ملتزما بأخلاقيات الحوار يعيد الشعب الفلسطيني في القطاع لما قبل يونيو 1967، حيث كنّا نسافر وننتقل من كافة مدن ومخيمات القطاع عبر الحدود المصرية حتى قرية الشيخ زويد ومدينة العريش بدون إبراز أية هوية أو اثبات شخصية، والمواطن المصري كذلك عبر الحدود المفتوحة إلى كافة مدن ومخيمات القطاع....سقى الله تلك الأيام!!! والله يجيرنا مما هو أعظم كما كان يدعو يوميا جدّي في مخيم رفح، وليته يسمعني في قبره لأقول له : وهل هناك يا جدّي أعظم من هذه المصائب التي نعيش؟
[email protected]