كانت العديد من التوقعات من محبي فتح وكارهيها ترى أنه لن يعقد مؤتمر حركة فتح، كما انعقد في الرابع من أغسطس الحالي في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية وذلك لأسباب وظروف متعددة، كانت ترجح هذا الاحتمال خاصة في الساحة الفلسطينية المشحونة بالتوترات والتشنجات الشخصية والموضوعية التي تغلب المصلحة الشخصية والتنظيمية على التطلعات الوطنية للشعب في عمومه. من هذه الأسباب والظروف:

أولا: مكان انعقاد المؤتمر

كان النقاش حادا في داخل الحركة حول مسألة هل يعقد المؤتمر في داخل مناطق السلطة الفلسطينية وتحديدا في الضفة الغربية، أم في الخارج في عاصمة عربية خاصة القاهرة أو عمّان. أنصار الخارج كانت حجتهم ضعيفة للغاية وهي رفض انعقاده في ظل الاحتلال الذي من الممكن يؤثر على توجهات المؤتمر وقراراته، وكان أبرز من طرحوا ذلك بقوة فاروق القدومي عبر مزايدات فارغة كي يحافظ على المظهر الذي يصرّ على لبوسه وهو رفض العودة للضفة أو غزة طالما هناك أي شكل من أشكال الاحتلال. وكأن ما لا يقل عن مائتي ألف فلسطيني عادوا بعد اتفاقية أوسلو كلهم خونة بما فيهم الرئيس عرفات والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، وغالبية اللجنة المركزية لحركة فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وغالبية قيادات المنظمات الفلسطينية والنقابات والاتحادات الفلسطينية وعشرات من الكتاب والصحفيين، كلهم خونة فرّطوا بالحق الفلسطيني ما عدا فاروق القدومي فهو وأحمد جبريل حارسا الحقوق الفلسطينية ومخططا التحرير من النهر إلى البحر (المقصود من نهر الأردن إلى البحر الميت). والدليل على حرص فاروق القدومي على المظاهر الفارغة هو عودة مناضلين فتحاويين للمرة الأولى للضفة الغربية لحضور المؤتمر وربما الإقامة الدائمة مثل أبو ماهر غنيم مسؤول التعبئة والتنظيم في الحركة.

هذا وكان إصرار الرئيس محمود عباس رئيس الحركة وغالبية لجنتها المركزية على عقد المؤتمر في داخل الأرض الفلسطينية مما يعني الوجود الفلسطيني غير القابل للشطب والتجاوز، وقد فعلت الحكومتان الأردنية والمصرية خيرا برفضها عقد المؤتمر في أراضيها لأنه من غير المنطقي أو الوطني أن يتوفر كيلومتر واحد داخل الأرض الفلسطينية لعقده، ويصر البعض على عقده في الخارج، كما أن الرفض الأردني والمصري لن يحيل أية خلافات داخل المؤتمر لتأثير من الدولة المضيفة بل لأعضاء الحركة فقط.

ثانيا: أكاذيب فاروق القدومي

أدرك فاروق القدومي أنه الوحيد من بين قيادات الحركة الذي يريد عقد المؤتمر في الخارج للأسباب التي ذكرتها، فقرر عندئذ بذل ما يستطيع لإفشال المؤتمر أو وضع مشاكل وتوترات في داخله في حال انعقاده، فكانت القنبلة الفارغة التي اتهم فيها الرئيس عباس و محمد حلان بقتل الرئيس ياسر عرفات، مدعيا أن لديه وثيقة من الرئيس عرفات نفسه، و هو بذلك يكذب كذبا مكشوفا لسببين:

1. إذا كان لديه هذه الوثيقة الخطيرة لماذا سكت عليها حوالي خمسة سنوات بعد موت الرئيس عرفات؟ هل هكذا وثيقة خطيرة يمكن السكوت عليها؟ ولماذا كان يشهد قبل سنتين أفضل الشهادات بحق الرئيس عباس طالما هو قاتل عرفات؟ وكيف نسي دفاعه المشهور عن الرئيس عباس بقوله: (الرئيس عباس نختلف معه ولا نختلف عليه). إن هذا القول لم يصدر حتى عن أنصار صدام حسين وجمال عبد الناصر بحقهما، فكيف أصبح من (لا نختلف عليه) قاتلا للرئيس عرفات؟

2. هل يعقل أن هكذا وثيقة خطيرة تصله من الرئيس عرفات، ويبقى عرفات ساكتا عنها وحولها؟ وهل يعقل أن توجد هذه الوثيقة ولا يطلع عليها عرفات إلا القدومي دون زوجته السيدة سهى الطويل أو أبن أخته وزير الخارجية الفلسطيني آنذاك ناصر القدوة، وهما محل ثقته العالية، والمعروف عن عرفات أنه كان لا يخجل ولا يستحي ولا يعطي حسابا لأحد من حوله، فلو كانت هذه الوثيقة صحيحة لما سكت عليها عرفات، ويكتفي بإرسالها إلى القدومي الذي لم يرى عرفات ولم يقابله منذ عودته للأراضي الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو في عام 1996. فكيف أرسلها عرفات له؟ الاحتمال الوحيد مع الحمام الزاجل!!! وقد نفى ناصر القدوة أكاذيب القدومي جملة وتفصيلا، فهل القدومي أحرص على عرفات من أبن شقيقته وعائلته؟.

ثالثا: جريمة حماس منع أعضاء المؤتمر

قررت قيادة حماس في الداخل والخارج بالإجماع منذ التفكير في عقد المؤتمر أن تمنع أعضاء المؤتمر القاطنين في قطاع غزة من المغادرة لحضور المؤتمر، وأن كل من يصل للمشاركة في المؤتمر بأية طريقة سوف يتم اعتقاله عند عودته وإيداعه السجن وتقديمه للمحاكمة على جريمته الفتحاوية هذه. ولا يستطيع أي منطق أن يفسر قرار حماس هذا، وهي في الوقت ذاته تشكو من إقفال الاحتلال للمعابر ومنع سفر الفلسطينيين بحرية، إذا هل اختلفت ممارساتها عن الاحتلال؟ بالعكس الاحتلال في العديد من المواقف أرحم من حماس وقيادتها، فعندما هرب العشرات من كوادر فتح من بطش وقتل حماس عقب انقلابها العسكري وجدوا ملاذا آمنا لدى الاحتلال وأدخل المرضى منهم المستشفيات. وفي داخل سجون الاحتلال يتوفر للسجناء والمعتقلين ما لم يتوفر في فنادق حماس، فأغلبهم معه هاتفه الخلوي، والعشرات منهم أكملوا دراساتهم العليا وهم في السجون، بينما حماس صادرت الهواتف الخلوية لغالبية أعضاء مؤتمر فتح كي لا يتواصلوا مع المؤتمر من خلال الهواتف. وقد صرح مسؤول في حماس بأن الذين وصلوا رام الله من أعضاء المؤتمر سيتم اعتقالهم كعملاء وخونة لأنهم سافروا عبر نقاط لا يستطيع أمن حماس الوصول إليها لأنها واقعة تحت سيطرة الاحتلال.

كانت حماس تعتقد أنها بمنع أعضاء المؤتمر القاطنين في القطاع من المشاركة سوف تفشل عقده، ولكن إصرار الرئيس عباس وأعضاء وكوادر فتح أفشل هذا التفكير الحمساوي من خلال عقد المؤتمر فعلا في مدينة بيت لحم وإيجاد الصيغة لمشاركة أعضاء القطاع وتمثيل القطاع في اللجنة المركزية والمجلس الثوري للحركة التي انتهت بنجاح يشكل تحديا للانقلابيين الحمساويين، الذين لا يفهمون سوى التفرد والسيطرة بدليل كل ممارساتهم الظلامية القمعية في القطاع، ولم لا وهم يحملون في حركتهم صفة (الإسلامية) وبالتالي فهم موكلون من الله تعالى.

سكوت جماعات الإخوان على ممارسات وليدتهم حماس

ومن المخجل أن جماعات الإخوان المسلمين في الأردن ومصر تحديدا، تسكت سكوت الصم البكم على ممارسات ابنتهم الشرعية حماس، وأكاد أجزم أن هذه الأعمال من حماس بما فيها منع أعضاء فتح من المشاركة في مؤتمر الحركة، لو صدرت من فتح اتجاه حماس، لسمعنا منهم دعوات وبيانات الويل والثبور، ولما تباطأ محمد مهدي عاكف عن إصدار بيان بعنوان (طز في فتح) لأنها لن تكون عنده أغلى من وطنه مصر الذي أصدر بحقه العديد من الطزات (طز في مصر). ولكن من عنده وكالة من الله تعالى كما يخيل له لن ينتقد ابنته الشرعية (حماس في غزة.

مؤشرات الواقع الفلسطيني القادم

إزاء هذه الظروف فإن المؤشرات الميدانية للواقع الفلسطيني ترشح ما يلي:

أولا: تماسك فتح بتطعيم قيادات جديدة

انطلاقا من الروح التي سادت المؤتمر رغم بعض المشاحنات إلا أن فتح خرجت تنظيما متماسكا بعكس ما رأى وانتظر البعض من شرذمة وفرقة وانقسامات، وكان أول التماسك هو الإجماع على اختيار الرئيس محمود عباس رئيسا للحركة، وينتظر أن يرفد هذا التماسك دخول قيادات شابة جديدة للجنة المركزية والمجلس الثوري، لأن فتح رغم كل سلبياتها تظل الحركة التي قادت النضال الفلسطيني، و أوصلت الكيانية الفلسطينية إلى وجود فعلي رغم تعثر الوصول للدولة الفلسطينية المستقلة على الأقل في الزمن المنظور.

ثانيا: انسداد أفق أية تسوية سلمية سريعة

وذلك بسبب التعارض الواضح بين الخطوط الحمر الإسرائيلية والتطلعات الوطنية الفلسطينية المشروعة، التي هي أقل ما يمكن القبول به، وعلامات هذا الانسداد تبدو من التصادم في الموقفين الأمريكي والإسرائيلي من مسألة الاستيطان والمستوطنات، وبالتالي إذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي عاجزين عن إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة، فموازين القوى السائدة لا تسمح بإجبار إسرائيل على ذلك من قبل الطرف الفلسطيني بما فيه الحمساوي.

ثالثا: استمرار الانقسام الفلسطيني إلى أجل طويل

مستجدات الوضع الفلسطيني خاصة بعد منع إمارة حماس أعضاء فتح من السفر للمشاركة في المؤتمر، وهجوم الرئيس عباس على الحمساويين ووصفه لهم بالانقلابيين الظلاميين، وأن فتح لن تكون رهينة لهم، ورد حماس والتهجم بإسلوب أقسى على الرئيس عباس وقيادة فتح، يعلن ذلك إن إمارة حماس في غزة ودويلة فتح في رام الله واقع قائم لزمن طويل وربما نهائي كما حدث في الحالة القبرصية المستمرة في الانقسام بين قسم تركي وقسم يوناني منذ عام 1974.

رابعا: تصاعد المد الطالباني في إمارة حماس

في ظل هذا الانقسام وخلو الساحة الغزاوية من أي تأثير وفاعلية لحركة فتح، وغياب باقي التنظيمات التي هي مجرد واجهات إنترنتية، ودعم جماعات الإخوان المسلمين السلفية لحماس، فلا ينتظر الشعب الفلسطيني في القطاع سوى تصعيد أمراء حماس لتوجهاتهم المتخلفة الظلامية التي لن تتوقف عند المظاهر التي رصدتها في مقالتي منذ أيام بعنوان (صعود ملامح إمارة حماس الطالبانية في غزة).

هذه قراءة للواقع الفلسطيني القائم لا علاقة لها بالتشاؤم والتفاؤل، ومن لديه أي بصيص من أمل فاتنا التركيز عليه، فليخبرنا به و أجره على الله تعالى وشيوخ حماس.
[email protected]