الزيارة المفاجئة التي قام بها الملك الأردني عبد الله الثاني قبل أيام قليلة مرتديا بدلته العسكرية للقيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية، واجتماعه مع كبار ضباط الجيش الأردني، متحدثا لهم وبغضب واضح في موضوعات حساسة عايشتها الساحة الأردنية في الشهور الماضية، حملت العديد من الرسائل والدلالات لمن يعنيهم الأمر في كل موضوع طرحه الملك، خاصة أن للساحة الأردنية خصوصيتها من نواح كثيرة، استدعت هذه الزيارة والغضب الملكي. أهم هذه الدلالات عند من يعرف ميدانيا هذه الخصوصيات الأردنية ما يلي:
أولا: لماذا القوات المسلحة الأردنية؟
هو سؤال منطقي خاصة أن الملك عبد الله الثاني، كان يستطيع توجيه رسائله الغاضبة هذه من خلال وسائل عديدة، منها مؤتمر صحفي أو لقاء مع الصحفيين الأردنيين أو مواجهة مع مجلس النواب أو توجيه هذه الرسائل من خلال التلفزيون الأردني وغيرها. لقد كان توجهه للقاء القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية، لأن هذه القيادة من خلال كبار قادتها ومسؤوليها العسكريين عرفوا بالمهنية العسكرية المنضبطة، ويعرفون بجدارة حدود مهمتهم وهي الحفاظ على أمن البلاد والعباد فقط، دون التدخل في أية أمور سياسية أو اقتصاديه أو برلمانية كعادة كبار الضباط العسكريين في العديد من الدول العربية والإسلامية، وهذه المهنية العالية جعلت الأردن بمنأى عن الاضطرابات والمشاكل والتهورات التي يقود العسكريون بلادهم إليها، إلى درجة أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق ركن أول خالد الصرايرة ومن سبقه في هذا المنصب طوال نصف القرن الماضي ومن معهم من كبار الضباط ، من النادر أن يتردد اسمه أو ظهوره في وسائل الإعلام الأردنية، إلا في المناسبات الرسمية والوطنية التي تشارك فيها القوات المسلحة بعكس العديد من الدول العربية والإسلامية حيث كبار العسكر دوما في الواجهة الإعلامية المكتوبة والفضائية. وهذه الخاصية يرصدها بعض المتابعين لمدير دائرة المخابرات العامة الجديد اللواء محمد الرقاد الذي تولى منصبه منذ بداية العام مكرسا نفس المهنية بعكس مدراء سابقين سرقتهم أضواء الإعلام، فكان حضور أسمائهم وصورهم في وسائل الإعلام أكثر من السياسيين، وهذه المهنية المتفرغة لأمن البلاد ترفد دور القوات المسلحة الأردنية التي لجأ إليها الملك عبد الله الثاني، طالبا أن يكون حديثه لكبار الضباط علنيا وموجها من خلالهم للشعب الأردني، كما رصدت تقارير سابقة لإيلاف كانت السباقة فيها خاصة تقارير الزميل عامر الحنتولي التي أثبتت التطورات الميدانية صحتها ودقتها.
وهذه الخاصية تعني للملك والشعب الأردني أن القوات المسلحة الأردنية هي المرجع الأساسي في حماية البلد أيا كانت تقلبات السياسيين والحزبيين الذين لن يجدوا صدى لتقلباتهم هذه داخل صفوف القوات المسلحة الأردنية، وكأن الشعار الداخلي للقوات المسلحة الأردنية الموجه لتلك الأحزاب والسياسيين هو (لكم تقلباتكم ومواقفكم المتعددة ولنا موقف واحد هو الحفاظ على البلاد ووحدتها). لذلك كله كانت الزيارة الملكية لتوجيه الرسائل الغاضبة من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية.
ثانيا: مواجهة مثيري الفتنة الداخلية
هذه كانت من أهم رسائل الملك الواضحة الغاضبة، خاصة أنه في الشهور القليلة الماضية قام بعض الصحفيين الأردنيين بأدوار أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة ولا تخدم إلا أجندات خارجية لا تريد للأردن الاستقرار من خلال ضرب الوحدة الوطنية التي لا علاقة لها بالمنابت والأصول المتعددة التي تشكل نسيج المجتمع الأردني بقدر ما لها علاقة بانتماء الفرد وصدقه في خدمة وطنه. وذلك في ضوء أنه من النادر أن تجد شعبا في الكرة الأرضية يتكون من منبت وأصل واحد. هذه الأقلام الأردنية كانت تتصيد مناسبة وبدون مناسبة لتزرع فتنة بين المكونين الأساسيين للشعب الأردني وهما الأردني من أصول فلسطينية وما يمكن تسميته الأردني الأردني. وقد كانت خطورة أقلام الفتنة هذه أنها تصعد من خطابها الشرير في وسائل إعلام عربية محسوبة على جهات حزبية لا يمكن الشك في أنها لا تضمر الخير والاستقرار للأردن. وقد وصل الحد ببعض هذه الأقلام لاستفزاز الجانب الساكت الهادىء الذي لا يريد الانجرار لمحاولة الفتنة هذه من خلال التشكيك في هدوئهم من خلال تساؤل بغيض: (فلسطينيو الأردن: صمتكم الذي يوجعنا). والهدف من هذا التساؤل هو الانجرار لردود ربما تكون إقليمية كما يتمناها صاحب هذا السؤال و تسيء للوحدة الوطنية الأردنية، فيتحقق له ما يريد. إن الخبث والعبث في هذا التساؤل لا يمرّ على جاهل أو غبي، لأنه لا معنى ل (فلسطينيي الأردن) إلا التشكيك والفتنة، لأن غالبية من قصدهم هم أردنيون ولدوا في أرض الأردن، و إلا ماذا نقول عن الولايات المتحدة الأمريكية التي يتعايش فيها ما لا يقل عن خمسين أصلا ومنبتا، ولا يزايد أحد على الآخر بأنه (أمريكي) أكثر من الآخر؟. ولنا أن نتصور حجم الخبث والفتنة لو تساءل آخرون من نوعية هذا الصحفي قائلين: (يا شركس الأردن)، (يا شيشان الأردن)، (يا شوام الأردن) إلخ المنابت والأصول التي يتشكل منها نسيج المجتمع الأردني، ومن المؤكد أن الغالبية العظمى من هذه المنابت والأصول لا تعرف عن بلاد الشيشان والشركس وفلسطين إلا ما قرأته في كتب التاريخ، وبالتالي لا يشكك في انتماء أي منها إلا من يريد الفتنة بين هذه الأصول والشر للأردن عموما.
لذلك كان الملك عبد الله الثاني واضحا بغضب شديد في هذا الموضوع، عندما أكدّ على أن:
(الوحدة الوطنية خط أحمر ولن نسمح لأحد في الداخل أو الخارج أن يسيء إليها). (أكثرية من يحاول الإساءة هم في الداخل وهذا عيب وحرام). وهذه نقطة ملكية مهمة تؤكد ما قلناه عن تلك الأقلام الأردنية التي تحيلها كتاباتها تلك في أعتى الدول ديمقراطية للمحاكمة والمساءلة، فما بالك لو قالت هذا الكلام في دول عربية فيها من المنابت والأصول ما هو أكثر من الأردن. والمؤسف أن هذه الفتنة الجوالة وجدت مرتعا لها في أماكن لا يتخيل عاقل أو مجنون أن تصلها تلك الفتنة الإقليمية، وهي ملاعب الرياضة كما حدث من هتافات مسيئة في المباراة الأخيرة للنادي الفيصلي والوحدات من قبل جهلة من مشجعي النادي الفيصلي، وقد تعامل معها الملك عبد الله الثاني باستنكار شديد . وكي نكون موضوعيين فإن اللوم لا يقع على النادي الفيصلي الذي أطلق بعض مشجعيه تلك الهتافات فقط ، ولكن نادي الوحدات يتحمل أيضا نسبة من المسؤولية من خلال بعض شعاراته التي يضع فيها اسم القدس ملحقا باسمه (الوحدات)، وكأنه الممثل الشرعي الوحيد لمدينة القدس.
فما دخل مباريات رياضية بهذه الشعارات التي لا يمكن فهمها إلا أنها للمزايدة والفتنة بطريقة غير مباشرة؟. وهذه الشعارات لا تكون أحيانا إلا للشهرة الكاذبة كما فعل اللاعب المصري (أبو تريكة) عندما وضع شعارا لدعم غزة وصمودها على صدره. ماذا قدّم للصمود من خلال هذه الفهلوة التي لم يقصد منها سوى الشهرة الشخصية، وقد تحقق له منها ما لم يتحقق لصلاح الدين الأيوبي. ولا بد أن نتملك الجرأة للقول أن هناك أفرادا قلائل من الطرفين بهذه الشعارات المتخلفة يعبرون عن جهلهم الذي أثار غضب الملك عبد الله الثاني، واعتبره (عيبا وحراما). لا أتخيل من يستطيع أن يزايد على من بأردنيته،؟. إن المزايدة الحقيقية الوطنية في هذا المجال هي الارتقاء بالحفاظ على الوحدة الوطنية للشعب الأردني، وكلما ارتقى الفرد لتلك القمة بسلوكه وتصرفاته وممارساته، عندئذ يستطيع اعتبار نفسه أنه أردني أكثر ولاء للأردن من غيره. وعندما يقرر الملك عبد الله الثاني أن (أكثرية من يحاول الإساءة هم من الداخل) فهذا صحيح لأن الأردني عندما يكون خارج وطنه لا يسأله أحد عن منبته وأصله طالما هو يحمل الجواز والجنسية الأردنية. من هنا أقولها بصراحة أن هناك صحفيون أردنيون يسيئون لبلادهم أكثر من أي إعلام معادي، وما يريح في هذا الجانب أن الكثرة من الصحفيين والكتاب هم من الغيورين على وطنهم ووحدته، بدليل أنهم تعرضوا بجرأة لهذه الفئة القليلة وأطلقوا عليها اسم (حزب الكتائب)، إشارة إلى القتل على الهوية الذي مارسه هذا الحزب أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وهو يفرق بين الفلسطيني واللبناني.
ثالثا: الإشاعات التي تطلقها الصالونات السياسية
إن ظاهرة ما أصبح يعرف باسم (الصالونات السياسية) ربما تتفرد بها العاصمة الأردنية (عمّان) أكثر من أية عاصمة عربية أخرى، والملاحظ لمن يتتبع سلوك الشخصيات السياسية الأردنية أنها في الغالب عندها هوس بالبقاء في دائرة الضوء بأي ثمن وأي شكل، لذلك ما إن تنتهي مدته (أو صلاحياته) من الوزارة أو مجلس النواب أو رئاسة دائرة ما، حتى يفتح صالون بيته أو مضافة عشيرته للزوار وغالبا يجب أن يكونوا من الأنصار والمريدين، ويبدأ بممارسة التحليل ونقل الأنباء أو فبركتها كي يوهم المريدين أنه ما زال فاعلا ومؤثرا ويحسب له ألف حساب أكثر من زمن أن كان في المنصب. وحسب متابعتي الأردنية فإن غالبية هذه الشخصيات التي انتهت مدة صلاحيتها تقول وتتبنى أفكارا جديدة عكس ما كانت تقول وتمارس وهي في المنصب. ولم تكتف بعض شخصيات الصالونات تلك بالإدلاء بعكس ما كانوا يقولون وهم في المنصب، بل تجرأت على تكرار ذلك في لقاءات صحفية أو مقابلات تلفزيونية.
ولأنها قلة فقد قال الملك عبد الله الثاني مشخصا هذه الحالة الصالونية: (الريف والبادية والمخيمات خارج دائرة الإشاعات التي تبدأ في صالونات عمان ومن يقف وراءها). وهذا تشخيص دقيق لأن سكان الريف والبادية والمخيمات هم من يشكلون الغالبية العظمى من الشعب الأردني، الذي يعرف طبيعة شخوص الصالونات هذه، وربما ذاقوا من إهمالهم الأمرين وهم في السلطة ودائرة القرار. لذلك كان الملك واضحا عندما أشار إلى (أن هناك من يسعى إلى التخريب ولن نسمح لهم بتخريب مستقبل الأردن).
وهذا المستقبل لن تهدده
فزاعة التوطين التي أكدّ الملك أنه (ما في قوة قادرة على أن تفرض علينا أي شيء ضد مصالح الأردن والأردنيين)، وهي فزاعة لأنه كما قلت في مقالة سابقة لا توطين للاجئين الفلسطينيين في الأردن بدون تواطؤ الشعب الفلسطيني أي ترك وطنه ومطالبته بدولة فلسطينية مستقلة، وتخاذل الشعب الأردني في قبول هذا التوطين، وهما موقفان من المستحيل أن يوافق عليها الشعبان الفلسطيني والأردني.
هذه الدلالات للخطاب الملكي من خلال القوات المسلحة الأردنية، تستدعي العديد من المراجعات من كافة الأردنيين أفرادا وأحزابا وبرلمانا، ليسأل كل نفسه: ماذا قدم لخدمة الوحدة الوطنية في بلاده، وماذا قدم لوقف شائعات الصالونات السياسية التي أدانها الملك، وهي فعلا مصدر بلبلة وفتنة لا يقصد أصحابها سوى البقاء في دائرة الضوء حتى لو على حساب مستقبل الوطن وحاضره. وهذا ينطبق على بعض الأقلام الصحفية في الأردن، ومن هنا تأتي أهمية تفعيل دور نقابة الصحفيين لوضع آليات لتعميق المهنية والمسؤولية بدلا من دور المتفرج والمعلق على الأحداث بعد وقوعها.
ولا قوة للأردن ولا مستقبل آمن مستقر
إلا بالارتقاء لمستوى التحذيرات الملكية، وما سيتبعها من تغييرات قادمة محتملة كما أشارت أيضا تقارير إيلاف.
[email protected]
التعليقات