حينما صرخ أمير المؤمنين و خليفة المسلمين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو يتقى ضربة سيف اللعين بن ملجم المرادي بصرخته الشهيرة ( فزت ورب الكعبة ) فإنه كان يختصر بتلك الصيحة معاناة طويلة من الألم و المرارة نتيجة للفتنة السوداء التي هبت على المسلمين فجعلتهم كالعهن المنفوش، كما أنها صرخة كانت بحق درسا للأجيال تفصح عن طبيعة المعاناة الهائلة التي كان يعانيها إمام المتقين وهو يحاول قيادة الأمة في زمانه وسط بحر هائج و مائج من العواصف و الفتن الرهيبة التي جعلته وهو من نعرف و تعرفون يعرب عن جزعه و مرارته من طبيعة الفساد و الإنقسام و النفاق الذي بدأ منذ ذلك الحين يتصاعد في الأوساط العامة، لقد ضرب أهل الكوفة مثلا تاريخيا مشهودا في نزاعاتهم و شقاقهم و إنقسامهم على حقهم فيما توحد خصومهم في أهدافهم التي أرادوها و حققوها بالكامل فيما بقيت الكوفة و اهلها تئن بالفتن و المصائب و النكبات التي إستمرت لعقود طويلة بعد ذلك و أنتجت كما هائلا من المآسي، لقد كان للإمام علي بن أبي طالب فضل السبق في التحذير من مصائب الإنقسام و الفرقة و الفجور في الخلاف في الرأي، وعانى كما عانت الرعية في زمنه من نتائج تلك الفتن و أطلق صرخته الشهيرة لتكون درسا بليغا في التاريخ، ولكن ما أكثر العبر و أقل الإعتبار كما يقول الإمام نفسه، لقد توالى الزمن و أنطوت الأيام و تغيرت أمور و أشياء كثيرة إلا أن شيئا واحدا لم يتغير في طبيعة أهل العراق ( الكوفة ) و في مزاجهم الناري الحاد وهي خصلة الشقاق و النفاق و إنقسام الآراء و العصبية الموحشة في العداء و المواقف، لكل شعوب الأرض كبواتها و هزائمها و أيامها السوداء و مراحلها العصيبة، ولكن جميع تلك الشعوب لم تتوقف و تلطم فقط على تلكم الأيام و المواقف بل تجاوزتها و قفزت على هزائمها و آلامها و كبواتها و حولتها لمتحف التاريخ و لذكريات الماضي إلا في العراق حيث تتوالد المأساة كل يوم و تنجب ألف كارثة مضافة ليتحول العراق و شعبه لأرض الكوارث و لمستوطنة دائمة من الحزن و الألم و العذاب و المعاناة، في العراق لا أحد يتعظ من الماضي و أحداثه؟ و لا أحد يقيم بالا لأي عبرة من عبره، و في العراق لا توجد أبدا وصفة ناجعة لتجاوز و علاج الصدمات و الكوارث؟ بل أن في العراق ألف مليون مشعوذ يجرون العربة إلى الخلف على الدوام و يحرصون على إستيطان الآلام و النكبات و جعلها الهوية الحضارية لشعب ما عرف يوما طعما و شكلا للراحة و الإستقرار إلا فيما ندر.
وفي التراجيديا الإغريقية العراقية الراهنة ثمة أشكال عديدة لمستحضرات نفاق تاريخية موحشة مستمرة تأبى التراجع و الإنحسار، خصوصا و إن الفئات الطفيلية التي تتعيش على المأساة هي التي آل إليها أمر العراق؟ وهي التي كلفها الأميركان بإدارة شؤون بلد يحتاج شعبه لفيالق من الأطباء النفسيين للعلاج من مصائب الماضي و الحاضر، الإدارة الأميركية اليوم وهي تحاول الإفلات من المستنقع الأفغاني الموحل الدموي غارقة حتى أذنيها في حل مشاكل الشقاق العراقي و نزاع أهل الكوفة و ( طويريج ) على كعكة السلطة! خصوصا و أن نائب الرئيس الأميركي جوبايدن ( وهو صاحب خطة تقسيم العراق )! قد أم بغداد مرارا و تكرارا بعد الإنتخابات الأخيرة بهدف ترتيب توافق معين ينهي أزمة تشكيل الحكومة و ينهي حالة العسرة القائمة إلا أنه لم ينجح و أجزم بأنه لن ينجح مطلقا، فالشقاق العراقي لا مثيل له على المستوى الكوني، و الشعب العراقي للأسف قد فقد إمكانية قيادة نفسه و ترتيب أموره ذاتيا، و الحل في العراق وفقا لما هو سائد حاليا لن يكون سوى حل مفروض بالقوة على جميع الفرقاء و إستعمال القوة من الجانب الأمريكي تحديدا لم يعد خيارا ممكنا و لا واقعيا في ضوء حيص بيص السياسة و العسكرية الأميركية وحيث تتشابك المواقع و تستنزف الإمكانيات و لا مجال لأي حلول حقيقية في العراق إلا من خلال الخضوع التام للإبتزاز الإيراني الذي أضحى اللاعب الأقوى و المنتصر الأكبر في الساحة العراقية أو من خلال العودة لخطة بايدن القديمة في تقسيم العراق وهي الخطة التي تلامس حاجات و منطلقات و قناعات قطاعات رئيسية و فاعلة تقود العملية السياسية اليوم، فليس سرا إن أهل الكوفة أي المجلس الإسلامي الأعلى يتبنى خطة الفيدراليات الطائفية!! وهي عنوان فرعي من عناوين التقسيم الوطني على أسس طائفية وهي الجرعة ألأولى و المباشرة في تنفيذ مخطط التقسيم الكامل و إنهاء العراق القديم الذي عرفناه و حيث ستقام إمارات طائفية تعبانة و رثة تشكل خط دفاع أول وملحق بنظام الولي الإيراني الفقيه!!، دون أن ننسى بأن للتحالف الكردي مصلحته المباشرة في هذا السيناريو الرث، اما المحاولة الأميركية لجمع رأسي جماعة علاوي و جماعة الحكيم في الحلال و تشكيل حكومة تناوب ( بدلي ) وفق صيغة: منا أمير و منكم أمير!! أو رئيس وزراء لمدة عامين يتقاسمها علاوي و عبد المهدي!! فهي نكتة بايخة تعبر عن فشل منهجي!!... الأمر المؤكد هو أن الورطة الأميركية في حقل ألغام الشقاق و النفاق العراقي هي أكبر مما هو متصور، و إن الأميركيين رغم قوتهم المادية لن يتمكنوا أبدا من حل شيفرة النفاق و الشقاق العراقي التاريخية!! خصوصا في ظل إصرار أهل الملل و النحل على أطماعهم الرثة... الفشل الأمريكي المضاعف سيؤدي بالضرورة لإنعاش أحلام أهل التقسيم و التشظي و حيث أضحت الكارثة هي البديل الموضوعي لأسطورة حرية العراق!! كما أن الفجر العراقي الجديد سيكون أكثر سوادا من قطع الليل المظلم...
فأهل الكوفة على موعد مع مصيبة جديدة إسمها التقسيم... فقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان... ولا حول و لا قوة إلا بالله....
التعليقات