إن مشاكل العراق ثقافية أكثر منها سياسية. دعوني في البدأ احدد ماذا أعني بالثقافية. أقصد بالثقافية، حسب مايعرفه علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، هو كل الموروث الثقافي الذي يتقاسمه شعب ما، ويتفق عليه إلى حد كبير، ويضم التراث الديني والعادات والتقاليد والقيم والمعايير الخلقية والمواقف تجاه كل شيء. بالنسبة للتراث الديني هو يضم كل ماهو مكتوب وغير مكتوب من أفكار ورموز وتشريعات وقيم ترسخت لتصبح سلوك يومي لدى الأفراد. أما العادات والتقاليد فهي الأعراف والفلكلور التي تتداولها المجموعات من خلال قوانين عرفية أو أمثلة شعبية تنعكس على سلوكيات هؤلاء الأفراد.

كل هذا الخزين يشكل وعي الأفراد فيعطيهم أخلاقهم وسلوكياتهم اليومية من خلال تشكيل طريقة تفكيرهم. أضافة إلى ذلك يرتب لهم المواضيع حسب الأهمية والأولوية في تقييماتهم ومواقفهم تجاه أنفسهم، تجاه الآخر، تجاه العلم، تجاه القانون، تجاه الدين وتجاه كل شيء يكون شغل شاغل لتلك الشعوب. يمكن إختصار الثقافة بأنها تعطي الفرد أخلاقه وتحدد سلوكياته وتصنع له طريقة تفكيره. حسب العلماء هناك أتجاهين في تعريف الثقافة، فمنهم من يقول إنها جوهرية أساسية ولايمكن تغييرها، ومنهم من يقول إنها بنائية تخضع لعوامل الزمن في التغيير أو التحول نحو الأفضل أو الأسوء. لكن هذا ليس في صللب موضوعنا.

قبل يومين دار نقاش بيني وبين أحد الأخوان في أمور السياسة والفساد وسرقة أموال الدولة. تحول النقاش إلى وضع المجموعات والمناطق التي تعيش فيها تلك المجموعات. أحتدم النقاش وأفرز صاحبي بما في جوفه حين قال لي (ان نصف أهالي مدينة الثورة quot;مدينة الصدر حالياquot; هم من الحرامية والسراق). حينها عرفت من أي منطقة هو في بغداد، وقلت له ماذنب أجيال تعيش على الفقر هاربة من ظلم وتسلط الإقطاع في جنوب العراق إلى ظلم وتسلط الحكومات المتعاقبة التي كانت تسرق أموال الشعب العراقي. غضبت، ولكن ورغم غضبي لم أستغرب من كلامه وعذرته على مايقوله، فهذا الشيء شائع في العراق وخاصة من قبل مناطق محددة تجاه مناطق أخرى. وأعتقد ليس في العراق فحسب بل أغلب الدول العربية.

إذن هو التمييز على أساس المنطقة والعرق والدين والطائفة، أضافة للتمييز على مستوى الجنس والعمر والوزن واللون والطول والتعليم وحدث ولاحرج. فلازلنا كشعوب عربية، والعراق بالتحديد، نتميز بأكثر أنواع التمييز بدائية وهو التمييز على أساس العرق والدين الذي تجاوزته ثقافات وشعوب كثيرة.

لم يكن التمييز في العراق جديدا ً فهو قديم ومترسخ في المؤسسات الدينية والثقافية والسياسية. فالعشائر العراقية تميز الشخص على أساس الحسب والنسب ولاتقبل ببعض الأشخاص كطالبي زواج أذا كانوا من من مناطق أو عشائر أو مهن معينة وذلك لأنها تنظر اليهم نظرة دونية. أما تمييز أصحاب البشرة السوداء فهو واضح ولايحتاج لدليل، كذلك التمييز ضد الغجر بعتبارهم قوم منبوذين لاأصل لهم يمتهنون مهن غير شريفة. أما قضية عرب وأكراد فحدث ولاحرج. فالعربي يطلق النكات التي تسخر من الكردي ورد عليه الكرد ي بنكات مثلها. ولا يزوجون الكثيرين الشخص أذا كان كرديا ً ووصلت إلى أن أحد المراجع القدماء أدعى أن أصل الكرد من الجن فلايجوز تزويجهم. وفي طريقي للسليمانية تعرفت على أحد الركاب الذي كان شابا ً متنورا ً فقال لي أن أخيه البروفسور في الطب رفض طلبه من الزواج بعربية لأنه كان يحمل شعورا ً قوميا ً. فأي نخب يحمل وطننا بين طياته. بالتأكيد هذا لاينطبق على الكل فهناك من هو متزوج من كردية والعكس أيضا ً، لكنه في نفس الوقت التمييز شيء شائع في العراق. وفي أحيان كثيرة يتباها به الفرد بلا خجل.

في السياسة كان النظام السابق يحتكر السلطة في عشائر محددة ومناطق محددة أيضا ً. وكانت النظرة إلى أهل الجنوب نظرة دونية لأنهم كما يُقال (شروكية). وكلمة شروكية تُطلق أيضا ً على أهالي تكريت وسامراء من قبل أهالي الموصل في الشمال من تلك المناطق. وفي نهاياته أختصرها النظام السابق في عشيرة واحدة ومنطقة واحدة، وأصبح العراق كله في نظره شروكية. أما الآن فتُختصر المناصب السيادية على أبناء الفرات الأوسط من شيعة العراق. فأنظر للوزارات ورئاسات الأحزاب والبرلمان ورئاسة الوزراء وهكذا دواليك. فلازال يُنظر إلى أبناء الجنوب العراق وبعض مناطق بغداد نظرة دونية. بل يصل الأمر إلى تقسيم الحوزات. فهناك الحوزة الناطقة كما يسمونها التي تمثل غالبية أهالي الجنوب وترتبط بالطبقة الفقيرة العاملة، وهناك الحوزة الصامتة كما يسمونها وهي ترتبط بالكثير من البرجوازيين والتجار والطبقة الغنية الأسترقراطية. وكان هذا واضحا ً في المواقف المعلنة وغير المعلنة من قبل النخب العراقية وفي جميع المستويات وذلك في المعارك التي دارت في النجف بين القوات الأمريكية و جيش المهدي.

لقد مر العراق في الكثير من المشاكل التي رسخت هذا التمييز من الماضي حتى الوقت الحاضر وساهمت الحكومات المتعاقبة في ترسيخ وزيادة هذا التمييز، كما فعل النظام السابق في تمييز الضباط وإعطائهم أمتازات جعلت منهم أغنياء، وكما قام بتدمير الطبقة الوسطى من نسيج المجتمع العراقي أيضا ً من خلال أهمال الكفائات وتحويل العراق إلى طبقة أغنياء وفقراء. أما الحكومات الحالية بعد السقوط التي تميز بين شيعي وسني في توزيع الوضائف وتقسيم المناصب السياسية. وأصبح هناك عراقيوا الخارج والداخل، والمهجرين والحواسم الذين يسكنون العشوائيات. وزاد هذا التمييز لترتكز الثروة في أيادي ثلة قليلة من السراق جاعلة منهم أغنياء يجولون في سياراتهم الفارهة شوارع بغداد ويصطافون في الدول الغربية وغيرها، تاركين المواطن العراقي يرزح تحت خط الفقر وتعم بين صفوفهم الجهل والأمية. فإذا سرق تكالبوا عليه وقدموه للمحاكمة بتهمة سرقة أموال الشعب. وهم يلبسون الأربطة ويحملون الشهادات ويسرقون بشكل قانوني كرواتب ضخمة أو بشكل غير قانوني من خلال صفقات مشبوهة.

أذن، مشكلة العراق ليست سياسية فحسب، بل هي ثقافية راسخة في جذورنا وسلوكنا وأخلاقياتنا. وهذا يتطلب مجهود وعمل ثقافي يتحمل عبئه المثقفون والعلماء العراقيون وليس السياسيون فحسب. بل يتحمله بشكل كبير رجال الدين الذين يخطبون ولهم سطوة هذه الأيام. فلابد من مشروع جاد يقوده مثقفون عراقييون يدعو للمساوات بين أفراد الشعب العراقي على أساس العرق والجنس والمنطقة. لابد للمثقفين العراقيين من وقفة واضحة وتنسيق مشترك من خلال الجامعات مراكز البحوث ووسائل الأعلام وباقي الطرق كالكتابة والفن وباقي صنوف الثقافة لصياغة ثقافة جديدة يعيش فيها الضعيف بلا تمييز. فالكثير من المشاكل التي نعيشها الآن يرجع أصلها للتميز والنظرة الدونية لللآخر. يقول القرآن الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).

[email protected]