نظام بشار الأسد في زاوية حادة، بعد الموقف الصريح للجامعة العربية والإجماع غير المسبوق، على ضرورة غيقافه عند حدّه، ومنعه من قتل السوريين، واستباحة دماء الابرياء، ولكن حتى يحصل هذا، لم لا يفكّر السوريون بما يعيشونه الآن من انتقال من عالمٍ إلى آخر، من عالم الإيهام، إلى عالم الحقائق.

ولم يشهد التاريخ عوالم إنشائية كاملة مدهشة، ومرعبة، كما شهده في سوريا عبر عقود القرن العشرين، وكانت الحقيقة هي الاقوى في كل مكان، إلا في سوريا، التي انحازت إلى الفراغ الافتراضي، بدءاً من فكرة ممانعتها ومقاومتها (الإنشائية الشفهية) ووصولاً إلى كل ما تنتجه من ظواهر إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية، فالتطوير والإصلاح كان يعني المزيد من التخريب والانقضاض على مؤسسات الدولة، ومحاربة الفساد كانت تعني المزيد من دعم الفاسدين، وتقوية نفوذهم، والمزيد من إفساد المجتمع بكل الصور التي تخطر و لا تخطر على بال الشيطان ذاته، حتى باتت القومية العربية التي تعدّ دمشق افتراضياً وشفهياً قلب عروبتها النابض، تعني النوم في الحضن الإيراني، واستبدال علمانية الدولة، بعمائم الظلاميين الذين ينتظرون عودة قادة غابوا في سراديب المجهول! فيدعم نظام قومي علماني، أحزاباً وحركات دينية أنتي عربية!! ومن يروّج لمبادئ الديمقراطية في مفتتح شعاراته (وحدة حرية اشتراكية) يجعل من الحرية أقبية رعب وتقليع أظافر وانتزاع حناجر وسنوات من العتمة وحجز الحريات، ويجعل من الوحدة العربية سلسلة مؤامرات وأوراق لعب، تخوّله من تسليح مجموعات وتدريبها في معسكرات في منطقة الحجيرة قرب السيدة زينب لتقوم بتنفيذ انقلاب في البحرين، وتشعل الحرائق في لبنان، وتصل تقارير عن أسلحة سورية تم إرسالها لقراصنة الصومال، وجناح عسكري للبعث الصومالي، ودعم للقاعدة في العراق، وطبعاً تسهيل مرور الآلاف من المجاهدين عبر الحدود السورية الممتدة لتنفيذ عمليات وحدوية في الأرض العراقية، ودقم للانقسام الفلسطيني الفلسطيني وإصرار عليه وغير ذلك من القاموس الكبير للفكر الوحدوي الذي عهده العرب من نظام الأسد الأب والابن.

في الضفة الأخرى، كانت لدينا معارضة نضالية عملت على تقديم نماذج من القيادات أغرت الآلاف من الشباب بالقبول بالعيش في السجون، لتكتفي بتحويلهم إلى ضحايا للقمع الديكتاتوري، وحرمانهم من التدرّب على المهارة السياسية التي تحتاجها سوريا هذه الايام، معارضة عاشت ونمت في المنافي، حتى أصبحت معاييرها مختلفة كلياً عن معطيات الشارع، وتصوّرها أبعد ما يكون عن تصوّر الشعب السوري لدولته المستقبلية، ومعارضة أخرى بقيت في سوريا، وهرمت مع النظام الذي شاخ وترهّلت مؤسساته.
واليوم وقد صار لدينا ثورة في سوريا، تكاد دماء آلاف الشهداء تجعلها حقيقة لا زيفاً، ها هي النخبة السياسية والفكرية السورية، تسارع لإعادتها خطواتٍ إلى الوراء، لتصبح أيضاً مجرّد ثورة شفهية إنشائية افتراضية.

فنظام الأسد الابن يصرّ على أنه هو من سيصنع للسوريين ديمقراطيتهم، عن طريق الدبابات والمدافع والجثث، والنظام المعارض باشكاله المختلفة، يصرّ على التضحية بالشعب السوري، للمحافظة على صورته الراقية، وما يسميه المتظاهرون السوريون الآن بـ(الأكابرية) والتي يطالبونه بالتخلي عنها وإدراك أن هذه الثورة هذه المرة، تحتاج إلى أن تكون حقيقة، على الأرض وواقعاً ملموساً، ينمو ويتطوّر، ولا يكتفي بالخروج في مظاهرات مستعدّة لتقديم المزيد من الشهداء، يجزم معظم المتظاهرين أن المعارضين السوريين يعدّون ارقام الشهداء المتصاعدة بفخر ولهفة، وكأنهم يفضّلون لو أنها أكثر هذه اليوم، ليفاخروا بالثورة أكثر، وليدينوا النظام أكثر.

كان السوريون جميعهم يسخرون من الجيش اللبناني، سنوات العزّة القومية (الشفاهية) وينعتونه بأنه جيش (الدلعونا) وأنه لا يحارب ولا يقاتل، ويكتفي فقط بالأغنيات والمفاخرة بالبطولات الزجلية، وهو الجيش الذي لم يطلق رصاصة واحدة ضد لبناني واحد، بسبب رأيه، في تاريخه الحديث كلّه، ولكن السوريين في ذات الوقت، يعتقدون أن الثورة السورية (السلمية) يكفيها للنجاح أن تبقى عند ذروة التعبير الزجلي ذاته، والخروج بأعداد كبيرة لا تلبث أن تتعرض لإطلاق الرصاص الحي والاعتقال ثم تنفض مجدداً، أو تلك التي أطلق سمّاها السوريون بـ (المظاهرات الطيارة) ذات الدقائق المعدودة والأعداد المحدودة، منشورات توزّع هنا أو هناك، جرائد تطبع بشكل سرّي، وتوزّع على نطاق ضيّق، أغانٍ للشهيد القاشوش تبثّ خلسة من مؤسسات الدولة وأقسام الشرطة، وبعض الساحات، بالونات وكرات تنس كتبت عليها كلمة (حرية)...إلخ، وبالتأكيد منشقون عن الجيش رافضون لإطلاق النار على مواطنيهم، سيصبحون بعد قليل، شهداء أو معتقلين، أو لاجئين خلف حدود الدول المجاورة، ويتحولون إلى متصلين ومشاركين عبر الهاتف وعبر الشاشات، ومنشقون جدد يدخلون الدوامة ذاتها كلّ يوم..ولكن...هل هذا يكفي؟! هل هذه هي الثورة السورية الكبرى؟!

أما الثورة الصوتية الأكثر سخرية فهي تلك التي تشهدها ساحة الأداء السوري المعارض، بين عواصم العالم، وفيما بين المعارضين أنفسهم، وانشغالهم بتوجيه الاتهامات لبعضهم البعض، والنيل من بعضهم البعض وتزاحمهم على بوابة سوريا الجديدة.

تحتاج الثورة السورية إلى الإنتقال إلى أطوار أخرى، أكثر تقدّماً باتجاه تحقيق أهدافها، كي تساعد العالم العربي والمجتمع الدولي، على مساعدتها، وكي يعرف أولئك الذين طرحوا علينا الاسئلة في أكثر من عاصمة في العالم: كيف نساعدكم؟ قولوا لنا كيف نساعدكم؟! وكنا لا نفهم أنهم فعلاً في حيرة من أمرهم، كيف يعرفوا بالفعل كيف يمكنهم دعم الثورة وعدم ترك الأبرياء يسقطون، وتحتاج الثورة السورية إلى الانتقال إلى أطوار أخرى ترفعها من المشافهة السياسية، إلى الفعل السياسي، والتأثير الواقعي، ووضع تصوّر لمسيرة الثورة وخارطة طريق ليس من أجل سوريا القادمة، لأن هذه هي اسهل المهام، ولكن خارطة طريق وخطة حسم توصل إلى إنجاح الثورة وإسقاط النظام وحسب..إن كان هذا هو الهدف من الثورة حقاً!!

[email protected]