أنا أعرف أن كلمة الإعاقة أو المعاق أصبحت لا تستخدم كثيرا، وأصبحت كلمة quot;ذو الإحتياجات الخاصةquot; أكثر إستعمالا، ولكنى لا أرى بأسا من إستخدام كلمة quot;المعاقquot; لأنها أكثر تعبيرا عن الحالة، وأن كانت تبدو أكثر قسوة.
...
إسمه (محمود) يجب أن تحبه من أول مرة تقابله، عرفته منذ سنوات عديدة فهو إبن لواحدة من أعز صديقاتى، ونظرا لأننا كنا نعيش فى بلاد مختلفة، فلم تكن لدى الفرصة لقضاء وقت كبير معه. ومؤخرا أصبحنا نعيش فى نفس البلد، لذلك بدأت أقضى معه وقتا أطول.
هو شاب فى العشرينات من عمره، وسيم وله إعاقة ذهنية تتراوح ما بين quot;التوحدquot; وعدم التركيز وعمره العقلى لايزيد عن 5 سنوات، كما أن لديه إعاقة جسدية تتمثل فى شبه شلل فى يده اليمنى وقدمه اليمنى، ودائما كنت أشفق لحاله وأشفق أكثر لحال والدته ووالده وباقى أسرته، ولكن مؤخرا قررت أن أبدأ فى التواصل معه بشكل آخر، قررت أن أبدأ فى تدريسه بعض الأمور البسيطة، مثل الكتابة والقراءة وبعض مبادئ الحساب والهندسة البسيطة، فذهبت وإشتريت له بعض الأدوات المدرسية، وكانت مفاجأة كبرى ومفاجأة سارة بالنسبة لى عندما رأيت تجاوبه بحماس للدراسة، وفى خلال عدة أسابيع، وجدت أننى أتعلم منه أكثر كثيرا مما أعلمه، فقد تعلمت منه:
أولا: الحب المجرد:
كلما رآنى محمود فى موعد الدرس أراه يقفز فرحا، ويهز يده اليسرى (السليمة) بشدة ويقول: سامي ..سامى ي ي ي!! فأحتضنه، وهذا الحب المجرد لم أختبره إلا من والدتى رحمها الله، فكنت أسعد بلقائه كما كان يسعد بلقائى، وكان يبدو سعيدا بمجرد أن أجلس بجواره وأبدأ بالمزاح معه ومشاغبته، وكان يبادلنى مشاغبة بمشاغبة.
ودائما ما يردد كلمات وجمل غير مترابطة ولكن فى معظم الأحيان كانت تلك الجمل تحوى أسماء بعض الناس الذين مروا عليه فى حياته، ولذلك عرفت أن الناس بالنسبة له هم أهم شئ فى حياته، وتعلمت منه أن الناس ووجودنا بينهم أهم شئ فى حياتنا.
ثانيا: الأشياء لا تعنى شيئا:
لاحظت أن غريزة حب التملك لدي محمود تكاد تكون غائبة، فلا يهتم بالأشياء، وعندما أراه يرتدى قميصا جميلا أحاول أن أعاكسه وأطلب منه أن يعطينى قميصه، فأجده يبتسم بدون تعليق، وأعتقد أنه لا يمانع فى إعطائى أى شئ يملكه، لأن حب التملك لديه يكاد يكون غير موجود. وذكرنى بالأغنية الرائعة لنجم البيتلز جون لينون (تخيل)
Imagine
Imagine there are no possessions
Imagine No Country to die for
....
ثالثا: من المهم أن تكون على طبيعتك:
لاحظت مع محمود أنه لا يتكلف ولا يحاول أن يبدو متميزا عن الآخرين أو أفضل منهم، ولكنه دائما على طبيعته، ولا يحاول أن يقلد أحد أو بالبلدى quot;يتمنظرquot; على أحد، فتجده دائما على سجيته، ولا يتلون حسب الموقف أو حسب المجتمع المحيط، فتجده على طبيعته مع الخادمة كما تجده على طبيعته مع والده أو والدته.
رابعا: النظام الشديد والإنضباط الشديد:
تعلمت من محمود الإنضباط الشديد، فتجده أحيانا وكأنه مبرمج لعمل الأشياء بنفس الترتيب، يحب أن يجلس فى نفس المقعد، وله برنامج معين لا بد أن يقوم به، وقد علمت من والدته أنه عندما يخلع حذاؤه أو ملابسه فإنه لا بد أن يضعها دائما فى المكان المخصص لذلك، وعندما ينتهى من الدرس فإنه يقوم بتجميع أدواته ويضعها فى نفس المكان كل مرة، فعند شرائى لأدواته المدرسية لأول مرة أحضرتها من المحل فى كيس بلاستيك كبير، وفى كل مرة كان يضع تلك الأدوات فى هذا الكيس، وبعد فترة أحضرت له شنطة محترمة لكى يضع فيها أدواته، ولكنه كان قد تعود على الشنطة البلاستيك، وأصبح يرفض بإباء وشمم إلا أن يضع أدواته فى الكيس البلاستيك ويقول :quot;لا ..لآ ... فى الكيس البلاستيكquot;!!
خامسا: الحفاظ على البيئة:
تجد محمود لا يأكل إلا فى مواعيد الأكل، ولا يأكل بين الوجبات، وعندما يجلس للأكل فإنه لا يقبل أن تملأ طبقه بأكثر مما يحتاج، ولا بد أن يأكل كل ما فى طبقه، فلا يترك أى فضلات أكل أبدا، وبذلك يحافظ على البيئة، وياليت نتعلم منه بأن نستهلك فقط ما نحتاجه لأصبح لدينا فائض فى الغذاء وفائض فى باقى مواردنا الطبيعية فى العالم كله.
سادسا: النظافة وحسن الهندام:
محمود شديد العناية بنفسه ونظافته وهندامه، وأثبت لى بما لا يدع مجالا للشك أن النظافة وحسن المظهر وحسن الهندام لاتتطب شهادة دكتوراه ولكنها تطلب فقط الحس الإنسانى الغريزى الذى لدى محمود.
سابعا: عدم المساومة فى المبادئ:
لاحظت أن محمود لا يساوم فى مبادئه قط، فعندما وضع لنفسه نظامه الخاص ومبادئه الخاصة فهناك شبه إستحالة أن تخرجه عن نظامه، وأعتقد أن هذا هو حال الكثير من المصابين ب quot;التوحدquot;، ولهذا تعلمت من محمود أنه يجب أولا أن يكون لك مبادئ، وأن تدافع عن تلك المبادئ، وألا تتنازل عنها.
ثامنا: عدم الكراهية:
لم ألاحظ على محمود كراهيته لأى من الناس حوله، صحيح أن معظم من حوله هم من أقربائه، ولكنى لم ألاحظ عليه حتى مظاهر التنافس التقليدى بين الأخوة، وإذا غضب تجده يقول لمن أغضبه: rdquo;لا.. لا .. محمود مش مبسوطquot;.
تاسعا: الفرح والسعادة لأبسط الأشياء:
كثيرا ما يضحك محمود لآتفه الأسباب، بل كثيرا ما يضحك بدون أى سبب، وكثير ممن حوله يتعجبون من ضحكه المفاجئ والغير مبرر، ولكنى كلما أرى محمود يضحك أشعر بالسعادة لسعادته بل وأضحك معه أحيانا بدون أن أعرف عن سبب ضحكه، لذلك فقد تعلمت أن الضحك لأى سبب هو شئ جميل، حتى الضحك من غير سبب هو شئ مطلوب.
...
وبعد أن عايشت محمود معايشة شبه يومية فى الآونة الأخيرة، أصبحت أتمنى أن أكون فى نقائه الفطرى، وأصبحت أؤمن بأنه ليس من ذووى الإحتياجات الخاصة، ولكن معظمنا من الأصحاء أصبحنا من ذووى الإحتياجات الخاصة منذ أن فقدنا الطفولة داخلنا!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات