كشف الحدث السوري، بمفاعيله السياسية والأمنية والاجتماعية وبارتداداته الاقليمية، حجم quot;الكارثة الوطنيةquot; التي حلت بسوريا.كما كشف هذا الحدث، الغير مسبوق في تاريخ سوريا الحديث، عن غياب المفهوم الحقيقي للوطن وللمواطنة عن الوعي السياسي وعن الثقافة العامة للسوريين، حكومة وحراكاً احتجاجياً وقوى سياسية ونخب ثقافية وفكرية.وأيضاً، الحدث كشف عن الشرخ العميق في quot;العلاقة الوطنيةquot; بين مختلف مكونات المجتمع السوري.قد لا نختلف على الطابع الوطني العام للانتفاضة السورية. لكن هذه الحقيقة يجب أن لا تجعلنا نتجاهل البعد الطائفي للحراك الشعبي، الذي بات هو المحفز أو المحرك الأساسي لغالبية المتظاهرين المناهضين للنظام.هذه quot;الكشوفات السوريةquot;، تجلت وتتجلى في أكثر من موقف ومحطة وواقعة وسلوك لهذا الطرف وذاك.ففيما تتهم المعارضات السورية، التي تلاقت على اسقاط حكم الرئيس بشار، النظام بادرة ظهره لمطالب الشعب السوري وأخذه من ايران quot;الشيعيةquot; وأدواتها الإقليمية حليفاً استراتيجياً ومرجعية أساسية له والاستعانة بالحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله ومن جيش المهدي لقمع حركة الاحتجاجات الشعبية المناهضة لحكمه والتهديد بإشعال quot;فتنة طائفيةquot; في البلاد كحبل نجاة له.سارعت هذه المعارضات للبحث عن حلفاء ومرجعيات، من خارج الحدود، في الجوار العربي الاسلامي والإقليمي، ومن بطانتها الطائفية والمذهبية، فضلاً عن رهانها على الخارج في اسقاط حكم الرئيس بشار، حتى لو تطلب الأمر عسكرة الانتفاضة و التدخل العسكري،بعد أن عجزت عن ذلك الاحتجاجات السلمية.

المعارضة العربية، خاصة التيار الاسلامي منها، ركزت على الدور التركي وبدرجة أقل على الدور العربي.فكما هو معروف، تركيا يحكمها حزب (العدالة والتنمية) الاسلامي،الذي أظهر تحمساً لإسقاط حكم الأسد- المتحدر من أصول quot;علويةquot; ذات الامتداد الواسع في تركيا- و إقامة quot;حكومة اسلاميةquot; على رأس السلطة في سوريا،أو على الأقل تعزيز موقع الاسلاميين في أي نظام سياسي سوري جديد.فمن شأن أي حكومة اسلامية سنية في سوريا أن تساعد تركيا على تعزيز أمنها القومي وتقوية مصالحها الاستراتيجية والحد من النفوذ الايراني(الفارسي) المتنامي في سوريا و المنطقة الذي يشكل مصدر قلق حقيقي لتركيا.في اطار هذه الاستراتيجية لحكومة أردوغان الاسلامية، احتضنت اسطنبول و رعت quot;مؤتمرات المعارضات السوريةquot;التي تمخض عنها تأسيس ما يسمى بـ (المجلس الوطني السوري)، الذي يهيمن عليه التيار الاسلامي ويطرح نفسه بديلاً للحكم القائم.الأهم من هذا،أن تركيا احتضنت قادة ما يسمى بـquot;الجيش السوري الحر- المنشقquot; وتقدم له كل اشكال الدعم المالي والعسكري واللوجستي والسياسي في معركته ضد الجيش النظامي لإسقاط حكم الرئيس بشار الأسد. فيما يخص المعارضة الكردية، رغم انخراطها في معظم أطر وتشكيلات المعارضات السورية، في الداخل والخارج،هي الأخرى هواها السياسي يميل الى خارج الحدود الى quot;اربيلquot; عاصمة الكيان الكردي الناشئ،حيث الزعامة التاريخية للأكراد.فقد استقبل الرئيس (مسعود البرزاني) وفداً كردياً قيادياً مثل (المجلس الوطني الكوردي) في سوريا، الذي أعلن عنه مؤخراً ورفع سقف مطالب الكرد السوريين الى حق quot;تقرير المصيرquot; ضمن وحدة الدولة السورية.وقد أكد البرزاني للوفد الكردي الزائر على أن الأولوية يجب أن تكون لحقوق الكرد،قال: quot;ما يهمنا هو الديمقراطية والاعتراف بحقوق الكورد، وأن يقترب كورد سوريا من الطرف الذي يحرص اكثر على إعطاء الحقوق لهمquot;. وأكد البرزاني على أنه سيدعم جهود الاحزاب السياسية لتثبيت حقوق الأكراد في سوريا. في الإطار ذاته، كشف السياسي الكردي السوري (صلاح بدر الدين)، في تصريح لصحيفة (العرب اليوم)، ما وصفه بـquot;التدخل السلبيquot; للرئيس العراقي الكردي (جلال الطالباني) في الازمة السورية.وقال بدر الدين:quot; ان الرئيس طالباني وعد الرئيس السوري بشار الاسد بان لا يقف الاكراد السوريين ضد نظام حكمهquot;.وأضاف: quot;بان طالباني يحث الاكراد للدخول في حوار مع نظام الرئيس الاسدquot;. نظراً لعدم وجود quot;دول وعواصم آشوريةquot; تحج اليها المعارضة الآشورية، تعيش هذه المعارضة في دوامة وتدور في حلقة وطنية مفرغة.تارة تستظل بعباءة المعارضة العربية، وتارة بعمامة الاسلاميين، وأخرى تلتحق وتحتمي بالمعارضة الكردية.في ظل الاستقطابات الطائفية والمذهبية والاثنية، التي سيشهدها المجتمع السوري في المرحلة القادمة،وكون المعارضة الآشورية هي الأضعف بين المعارضات السورية،غالباً سيجد الآشوريون(سريان/كلدان) أنفسهم خارج المعادلة السياسية. لأن حقيقة لا حليف حقيقي لهم في الداخل السوري. كما ليس لهم سند اقليمي أو دولي يتبناهم ويدافع عن قضيتهم. ورغم الطابع المسيحي للمعارضة الآشورية لا يجد المسيحيون السوريون،من غير الأشوريين، فيها ممثلاً سياسياً لهم،و لا يبدو أنهم معنيون بالمستقبل السياسي للآشوريين.

بموازاة هذا التحرك السياسي للسلطة والمعارضة، ثمة quot;معركة اعلاميةquot; تدور رحاها بينهما عبر مختلف وسائل اعلام. يقودها اعلاميون طائفيون ومذهبيون، تساعدهم في هذه المعركة المفتوحة وسائل إعلام عربية واسلامية وأجنبية، وكذلك مشايخ ورجال دين وأئمة بارزون.إذ يقوم اعلام كل طرف،خاصة الفضائيات،في كل لحظة بضخ مزيد من الجرعات والحقنات الطائفية والمذهبية القاتلة في المجتمع السوري، وذلك من خلال طريقة نقل وتصوير وصياغة أخبار ومشاهد القتل والموت والدمار المرافقة للتظاهرات والاحتجاجات المناهضة للنظام.فمنذ الأيام الأولى لانطلاق حركة الاحتجاجات، تحدثت ومازالت شخصيات قيادية في النظام عن مؤامرة خارجية وعن مشروع quot;فتنة طائفيةquot; يراد منها ضرب سوريا وزعزعة أمنها واستقرارها.طبعاً، حديث السلطة عن quot;الفتنةquot; هو بمثابة رسائل تهديد للمجتمع السوري بورقة الفتنة والفوضى،اذا ما هُدد بالسقوط.ناهيك عن حديث الاعلام الحكومي والملحق به عن مشاريع وخطط لإقامة quot;إمارات سلفيةquot; في سوريا،وعن دخول مسلحين اسلاميين من دول الجوار، في إشارة الى الخلفية quot;السنيةquot; لهؤلاء وللدول التي قدموا منها.بالمقابل، في إشارة الى quot;الطائفة العلويةquot;، التي ينتمي اليها الرئيس بشار، تواصل المعارضات الحديث عن ما يسمونه بـquot;جيش وشبيحة الأسدquot;،وعن استهداف المساجد في المناطق والأحياء الساخنة، في إشارة الى المناطق quot;السنيةquot;.كما يعمل اعلام المعارضة على تجييش الشارع المنتفض وتعبئته باتجاه quot;عسكرة الانتفاضةquot; وحمل السلاح تحت شعار (الدفاع عن النفس وعن المتظاهرين).ناهيك عن هتافات وخطابات المحتجين والمعارضين، التي تتناول (آل الأسد)،دون حزب (البعث العربي الاشتراكي)، الذي يشكل البنية الأساسية للنظام القائم وهو من أوصل الاسد الأب للحكم، وشكل(البعث) ومازال الغطاء السياسي والدستوري لتوريث الحكم الى الأسد الابن.حقيقة أن اقتصار هجوم المعارضة على (آل الأسد)، وتجاهل دور البعث والأحزاب المنضوية معه في اطار ما يسمى بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، فيه تطييف للأزمة الوطنية وتأجيج للطائفية والمذهبية في المجتمع السوري. واذا صدقنا اتهامات المعارضة للنظام السوري بإشعال فتنة طائفية في البلاد كحبل نجاة له، نتساءل: ماذا فعلت قوى المعارضة وقوى الحراك الاحتجاجي لقطع الطريق امام النظام وافشال مشروع الفتنة الطائفية؟. للأسف هي أكتفت بركوب موجة الحراك الاحتجاجي وبتبني شعاراته،وأخلت الشارع أو بالأحرى تركت مصير البلاد بيد متظاهرين ومحتجين يرفعون شعارات ثأرية وانتقامية لشهدائهم ولضحاياهم.ربما السلطة السورية فقدت السيطرة على جزء مهم من الشارع السوري،لكن ليست المعارضة السياسية التقليدية(الأحزاب) هي التي ملأت الفراغ (السياسي والأمني) الذي تركته السلطة. بمعنى آخر، ليس للمعارضة السياسية أي شكل من أشكال السلطة على الشارع المنتفض.فوفق كل المؤشرات والمعطيات السياسية والميدانية، أرى أن كلمة الفصل والحسم على ساحة المعارضة ستكون لما يسمى بـquot;الجيش السوري الحر- المنشقquot;،الذي يتكون من quot;طائفة محددةquot;، وهو الذي سيقرر مصير سوريا وشكل نظامها السياسي الجديد، إذا ما نجح في اسقاط حكم الرئيس بشار بقوة سلاحه. بحكم الطبيعة الطائفية لهذا الجيش، والمدعوم اصلاً من قبل حكومة تركيا الاسلامية، سيقف الى جانب (التيار الاسلامي) وسيعزز من دوره في الحياة السياسية في مرحلة ما بعد حكم الأسد.من شأن هذا الاصطفاف الطائفي أن يدفع بالبلاد الى مزيد من التأزم والاحتقان المجتمعي، وقد يدفع بالاقليات (الدينية والمذهبية والأثنية وكذلك الأحزاب والقوى الليبرالية والعلمانية واليسارية التي سترفض أي حكم اسلامي لسوريا )، الى التحالف والتوحد سياسياً في وجه التيار الاسلامي تحت شعار quot;حماية الدولة المدنيةquot;. مع اصرار النظام القمعي على المضي حتى النهاية في الخيار العسكري الكارثي لسحق الانتفاضة، وفي ضوء تعقيدات الأزمة الراهنة وتركيبة المجتمع السوري وانسداد الأفق على أية حلول ومخارج سياسية ديمقراطية سلمية صحيحة،وأمام الحاجة الملحة والضرورية للحفاظ على التوازن في تركيبة النظام السياسي لسوريا الجديدة، قد تجد جميع أطراف الأزمة، وكذلك المعنيين بها من قوى اقليمية ودولية، نفسها مضطرة على القبول بقاعدة quot;المحاصصة السياسيةquot;.اي توزيع quot;الرئاسات الثلاثquot; على الطوائف الأساسية الثلاث(السنة- العلويون - المسيحيون)، مع اسناد وزارات ومواقع سياسية سيادية مهمة للأكراد والآشوريين(السريان) والدروز والأرمن والتركمان والشركس.لا شك، ثمة مساوئ وعيوب كثيرة لهذا الخيار.لكن قد يكون أفضل الخيارات المتاحة لإخراج سوريا من أزمتها وتجنيبها خطر الفتنة الطائفية والحرب الأهلية التي بدأ نذيرها في محافظة حمص.

سوريا

باحث مهتم بقضايا الاقليات
[email protected]