ذكرت في مقالٍ لي منشورٍ في إيلاف أن الفكرَ الطائفي والفكرَ القومي الإنعزالي يتوحدان في شيء واحد: الفكر النخبوي الذي يسعى في حقيقته و جوهره إلى مصالح نخبة من الطائفة دون عموم جمهورها، و إلى مصالح نخبة من القومية دون عموم جمهورها، معتمدا خطابا مخادعا يدعي إنه يدافع عن كامل ابناء الطائفة و القومية و يمثل مصالحهم.
احداث العراق الحالية و الحراك الجماهيري الحالي العابر للطوائف و القوميات، العابر لكل التقسيمات التعسفية المفتعلة و الذي عمّ العراق من شماله حتى جنوبه ، برهن على صحة هذا الاستنتاج.
الخطابان، القومي و الطائفي، المتمثلان بالتلويح بالخطر الذي يهدد الامن القومي الكردي أولا، كما و تخويف ابن الطائفة من تهديد الطائفة الاخرى، و محاولات تكريس التفوق العددي الذي يؤدي اوتوماتيكيا إلى حق طائفة دون غيرها، دون النظر الى التلاوين و المصالح المتباينة داخل القومية و الطائفة الواحدة ثانيا، ما هي إلا محاولات لمنع اي اصطفاف وطني على أساس المطالب التي تتعلق بغياب الأمن و الخدمات و استشراء الفساد و المعاناة المستمرة منذ سنوات و التي وحدت المواطنين العراقيين بغض النظر عن الطائفة و الدين و القومية.
يلتقي الخطابان القومي الانعزالي و الطائفي تحت سقف واحد: عرقلة أي اصطفاف قائم على المصالح الطبقية و المهنية المشتركة التي تجمع المكونات الوطنية كلها لمواجهة قضايا مشتركة مثل مكافحة الفساد و تمكين التكنوقراط و المهنيين من شغل الوظائف العامة بدلا من معيار الانتماء السياسي و الطائفي. و هكذا باتت لدينا سلطة تتوفر على جوهر عابر يسعى إلى تقاسم سريع للمغانم.
جوهر السلطة العراقية الآن يتكون من:
ـ المحاصصة الاساسية التي تُعني باقتسام السلطة بين تحالف الحزبين الكرديين من جهة و تحالف الأحزاب الدينية الشيعية من جهة أخرى، على حساب عموم الطبقات الشعبية من كلا الطرفين و على حساب مصالح الشعب العراقي و التكنوقراط و المثقفين بشكل خاص.
ـ المحاصصة الثانوية التي انخرطت فيها العراقية و التي صِيرَ إليها من قبل اطراف المحاصصة الاولى لتكوين مشاركة صورية تقوم على منح جزء من الغنيمة كوسيلة للترضية و التحييد.
المحاصصة الثانوية هذه ما هي الا ظل باهت للمحاصصة الاولى انخرط فيها هامشيون يعيشون على فتات موائد المحاصصة الاولى ( الاساسية) تم تحييدهم لكي لا يشكلوا معارضة برلمانية حقيقية.
فوّت أطراف المحاصصة الاساسية على انفسهم أن يكونوا قادة الشعب، فلم يعتمدوا على أدائهم و كفائتهم و رضى الناس عنهم بغض النظر عن انتمائهم و لم يطرحوا انفسهم كقادة وطنيين، بل أصبح البقاء في المركز القيادي قائما على ولاء طائفي او تقاسم محاصصي ( رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء).
و في الجانب الكردي غُيّبت، وسط المزايدات القومية الانعزالية، اصواتٌ عقلانية، كان ينبغي أن تكون أعلى أدركت بأن مصالح الشعب الكردي لن تكون عن طريقِ محاصصةٍ تقوم على مبدأ (اعطني و خذ) . فالذي يعطي بدون حساب سوف يعود و يطالب بما اعطاه و زيادة، و انما عن طريق ديمقراطية تداولية حقيقية توصل الكفاءات السياسية للسلطة بدون التعكز على الانتمائي الطائفي و الاثني، فلم يحصل أن مارس شعب حقه في تقرير المصير خارج الاطار الديمقراطي. و الديمقراطية في العراق و العمل على تعزيزها شرط أساسي لحقوق الشعب الكردي.
و على صعيد التحالفات الإقليمية تفاجأ كل المتعاطفين مع قضية الشعب الكردي حين وجدوا أن القيادة الكردية قد خالفت كل الاستنتاجات العقلانية حين تحالفت اقليميا مع ايران حصرا على حساب تعاون واسع و متوازن مع الاطراف الاقليمية و كل جيران العراق ( يضم ايران بالضرورة) و المجتمع الدولي. هذه المراهنة على تحالف وحيد الجانب تتناسى تجربة سابقة ادت الى سقوط خاطف ( لم يدم سوى ساعات أو أيام) للثورة الكردية بكل جبروتها و عدتها و عديدها بصفقة تمت بين النظام السابق و شاه ايران.

التهديدات
تتعرض المحاصصة الأساسية و المحاصصة الثانوية بالضرورة التي تهديدات تتعلق بأنها لم تسعَ إلى تكريس السيادة للشعب من خلال قيادة مجمل الشعب العراقي على اساس المواطنة. و قد كان تكريس الامتيازات و اقتسامها هو في واقع الامر اقتسام حزبي فئوي.
هذا التطور ادى و سيؤدي الى مزيد من تفكك المحاصصة.
على الجهة الأخرى لم يصاحب الفراغ المحتمل لمثل هذا التفكك القدر الكافي من الاستجابة لملئ هذا الفراع.
البديل المفترض كان بإمكانه أن يتمثل بالخطاب الوطني الذي غيبته النخب السياسية العراقية لدوافع مختلفة في مقدمتها ابقاء الانقسام و التشظي الوطني من اجل جني مصالح مالية لقادة الاحزاب. قيادة الاحزاب المشاركة في السلطة تدرك جيدا بأن معيار الكفاءة و المهنية يشكل تهديدا لها و إنه، اذا ما اعتمد، سوف يُجهز على أي نفوذ لها في السلطة. ففي قمة الوزارات و المؤسسات لدينا اناسٌ هم في اغلبهم جهلة أو انصاف جهلة من مزوري الشهادات.
على أن حراكا شعبيا بدأ يتبلور متمثلا في ادراك متزايد على الصعيد الوطني لوحدة المصير المشترك و انواعا من الاصطفافات الطبقية و المهنية تتعارض مع التقسيمات المعتمدة.
أدت المحاصصة السياسية و الطائفية إلى:
ـ استحالة تنحية اي موظف فاسد، فوجوده مرهون بصفقات سياسية رهنت بقاء رئيس الوزارة في منصبه ( تأثير نحو الأعلى).
ـ تقويض مفهوم مجلس الوزراء الذي ينبغي أن يصل الى قراراته جماعيا راسما سياسة متناغمة. فلا يوجد وزير مدين لوجوده في التشكيلة بقناعة رئيس الوزراء بكفاءته و انما هو موجود في تشكيلة الوزارة اعتمادا على صفقات سياسية ملزمة لرئيس الوزراء ( تأثير نحو الاسفل).
ـ تقويض مفهوم المعارضة التي كان من الممكن ان تلعبها احزاب و تجمعات معينة و خصوصا العراقية.
المحاصصة هي العدو اللدود للكفاءة و لدور التكنوقراط، فلا الحكومة الزمت نفسها بتولية التكنوقراط مراكز في الحكومة، و لا الاحزاب المتمسكة بالمحاصصة رشحت متخصصين مؤهلين لوقعهم الوزاري و الاداري اعتمادا على الكفاءة و المهنية ، و تحولت الوزارات و المواقع الادراية إلى مكافئات يقدمها الحزب لعضوه.

العراقية تسقط في فخ المحاصصة
فوتت العراقية فرصة تاريخية على نفسها في تشكيل معارضة برلمانية حقيقية تراقب عمل الحكومة و تفضح الفساد و اهدار المال العام، بانخراطها في حكومة فساد و محاصصة.
الاشارات الاخيرة التي صدرت من بعض اطراف العراقية مثل التصريح الذي نقلته ايلاف عن ميسلون الدملوجي و قولها quot; أن زعيم الكتلة أياد علاوي قد يعتذر في أية لحظة عن رئاسة المجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية، ويتحول إلى العمل المعارضquot; ليست سوى إضافة جديدة لارتباك قيادة العراقية و تشوشها و ضعف مصداقيتها. التصريح يوحي بممارسة الضغط لانتزاع حصة اكبر من كعكة المحاصصة أكثر مما يوحي بالانتقال الى المعارضة البرلمانية. ما سمّته السيدة الدملوجي مشاركةً في العملية السياسية ليس له سوى معنى واحد هو أن العراقية قد تخلت عن دور المعارض و لعبت دور الشريك في كل ما يحصل من فساد و غياب في الخدمات.
في مقال سبق اوردت أن الاختبار الحقيقي للديمقراطية هو سلوك الخاسر و ليس الرابح في الانتخابات و ان الاختبار الحقيقي هو حين يتخلى الخاسرون عن السلطة بسلاسة. الآن يتضح لنا مدى ايمان اطراف العملية السياسية في العراق بالديمقراطية. فحين دقت ساعات الفعل الجماهيري الابواب بدا الارتباك على جميع المستويات القيادية بعد اكثر من ثماني سنوات من ازدراء الناس الذين اعتبروا نائمين و تصاعدت التهديدات من جهة و الترضيات من جهة أخرى.
فماذا يعني تخفيض رواتب كبار المسؤولين الآن بعد ثماني سنوات؟ و ما هو مقدار هذه الرواتب؟ إن من المخجل أن تبقى رواتب كبار مسؤولي الدولة سرا فيما يعلنون عن التخفيض.
و حتى في اقليم كردستان الذي يفترض ان يكون قد قطع شوطا طويلا في مجال الديمقراطية و الحريات، اذا ما سلمنا جدلا ان العقبة الحقيقية امام الحريات و الديمقراطية كان النظام السابق، فقد فضحت تطورات الايام الاخيرة مدى تمسك المنتفعين من السلطة بمواقعهم مهما كان الثمن، و لا يوجد برهان أكثر سطوعا من التبرم من اشكال المعارضة و حرية التعبير التي قوبلت بالرصاص في اقليم كردستان و ختمت بحرق المحطة الفضائية المستقلة بداية هذا الاسبوع.
لقد تم تحويل صندوق الاقتراع من رمز للديمقراطية و التداول و ايصال الجدير الى سدة الحكم إلى وسيلة للتخدير و المحاصصة و توزيع المغانم على حساب الشعب.