100 مفخخة و1000 انتحاري.... ولا مظاهرة جماهيرية او شبابية واحدة!
هكذا اذن... أصبحت التظاهرات أخطر.. لأنها تطال مباشرة الرؤوس الكبيرة او الكروش الكبيرة... لا فرق!
بينما التفجيرات العشوائية والمخططة والعمياء هي اشياء ثانوية وبسيطة لأنها تطال فقط المساكين والفقراء والعاطلين عن العمل، اي لا تشكل خطرا حقيقيا على الحكومات والزعماء، كما انها تفيد كدعاية مجانية للمسؤولين الكبار والسياسيين المحترفين، حماة الدين والوطن والشعب والمذهب والطائفة والقومية والاثنية... وما شاكل من هذا quot;الخريطquot; المكرر منذ العصر الجاهلي الى ايام القائد الضرورة وما بعده ايضا.

شخصيا، اتذكر اننا قبل 5 سنوات ترجمنا مقالا تحت عنوان quot;100 طريقة للنضالات اللاعنفيةquot; في مجلة quot;المنبر المدنيquot; مع السيدة آنا زاير، ووضعنا بوستر على الغلاف الخلفي للمجلة بعنوان quot;لا لحكم الاعدامquot;... وسخر الجميع منا، واتهمونا بالتخاذل وحماية اركان البعث والنظام السابق من احكام الاعدام... اليوم ربما سيبحث الناس عن هذه الـ 100 طريقة لا عنفية... ولو اني اعتقد ان الناس، وخصوصا الشباب، لم يعودوا بحاجة لنا ما دام عندهم الفيسبوك والتويتر واليوتيوب وغيرها من مواقع ووسائط التواصل الاجتماعي-الاعلامي.

اليوم تسقط القوة الغاشمة والعنف الاحمق... لان العنف في النهاية سلاح الجبناء واليائسين والطغاة ومحترفي الارهاب... وتعود القوة، كل القوة، القوة الحقيقية، الى الجماهير التي تعلن ارادتها سلما، وعلنا...في زمان ومكان واحد... من دون تمثيل او وساطة... عبر الديمقراطية المباشرة... كما أراد جان جاك روسو قبل اكثر من قرنين.

هناك شيء ما قد تغير في هذا العالم... وخصوصا في العالم العربي الآسن المتعفن... روح جديدة تسري وقدر جديد يبزغ... قدر مغاير للماضي والسابق... مغاير لتفاهات الاسلام السياسي وسخافات القومية العربية وأوهام اليسار التقليدي... التي استخدمتها الانظمة السياسية العربية كل هذه السنين لاحتكار السلطة وتكميم افواه الناس والاستئثار بخيرات الشعوب العربية... اضافة الى اذلال الشعوب والضحك على عقولها وذقونها وسوقها الى التهلكة. العالم الخارجي نفسه بدأ يحترم ويصغي الى مطالب الشعوب العربية ويأخذها بجدية اكثر من الحكام العرب، الذين يقدمون انفسهم للغرب كحماة للحضارة الغربية والعالم الحر ضد همجية الشعوب الفقيرة المسلوبة الارادة على الدوام.

ومثلما تتعلم الشعوب من بعضها البعض وتتأثر ببعضها البعض، فان الحكومات والانظمة تتعلم وتتأثر ببعضها البعض وتعتبر بتجارب غيرها من الحكومات... كي لا تلاقي نفس المصير او لتطيل عمرها على الاقل. وأهم الدروس المستخلصة هي العصا والجزرة، الترهيب والترغيب، الوصاية والنصيحة.... واخيرا اللجوء الى الاجراءات الحكومية غير المبررة وغير المنطقية كما حصل في مظاهرات العراق يوم 25 شباط-فبراير... مثل منع التجوال او منع سير السيارات بشكل عام... كيف سيصل المتظاهرون الى موقع التجمع... كيف سيعودون الى منازلهم... ماذا يأكلون او يشربون! وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد حشدت الحكومة من القوات الامنية والعسكرية والجوية ما فاق عدد المتظاهرين بحجة حمايتهم... هو انتو خلاص حتحاربوا.. على قول عادل امام.

الغريب في الموضوع، ان العراق حكومة واحزابا ووسائل اعلام... جميعهم يجمعون على انهم (والعراق بالتالي).. واحة الديمقراطية الاولى في العالم... لأنهم ذهبوا للانتخابات في احد الايام... وكأن الانتخابات لا تجلب السيئين الى الحكم مثل هتلر وموسوليني.. ومثل معظم القادة والرؤساء في امريكا واوروبا منذ الحرب العالمية الثانية الى الآن، من الذين تستبدلهم الارادة الجماهيرية دوريا وبشكل سلمي... وكأن الجميع نسوا ان تشكيل الحكومة العراقية quot;الموسعةquot; استغرق ما يقارب العام، وبعض الوزارات لا تزال من دون وزير.. والسيد علاوي ما زال يبحث عن مجلسه بتاع السياسات من دون جدوى. ان كنتم ديمقراطيين بالفعل، فلم الخوف من المظاهرات السلمية يا سادة... ولماذا مراقبتها بهذه الطريقة المريبة وتحشيد القوة المفرطة؟ لماذا لا احد يتجرأ على نصح الناس بتجنب الزيارات الدينية المليونية وهي عرضة لهجمات الارهابيين؟ أليس خروج الناس سلميا للدفاع عن كرامتهم وخبزهم ومستقبلهم واجبا دينيا وانسانيا ايضا؟ ان حماية المتظاهرين لا تعني منعهم من التظاهر او تعجيزهم عن التظاهر او تلفيق التهم الافتراضية المسبقة او فرض الوصاية واصدار التعليمات المعيقة للتظاهر.

وعندما نصل الى دور وسائل الاعلام المرئية في العراق، فحدث ولا حرج... العراقية أخت المصرية... مالهاش دعوة بما يحدث وكل شيء عال العال... عديد المحطات التابعة لقوى المحاصصة الطائفية تتكلم بخجل ووجل عما يجري وتسدي النصائح... محطات اخرى معارضة للوضع السياسي او متضررة تصور مظاهرات العراق كأنها أخطر وأهم مما يجري في ليبيا وتتهم امريكا واوروبا بالتخلي عن العراقيين وتصرخ وتناشد بطريقة فجة... عدد اقل من اصابع اليد من المحطات ارتقت الى مستوى الموضوعية اولا والمسؤولية الاعلامية ثانيا، وحاولت جاهدة ان تبين حقيقة الاحداث. ونشكر الله ان الاعلام كان حاضرا واوصل الحدث الى الناس رغم كل السلبيات... ونأسف كثيرا للقناة التي تدعي انها مبنية على طريقة هيئة الاذاعة البريطانية وتحت اشراف البرلمان وقد تحولت الى صوت للحكومة واجهزتها الادارية وللقوى الدينية وتوجيهاتها وتشعباتها واجتهاداتها.. حقا انها محطة عصرية!

شخصيا، انا مبتهج ان الجماهير لأول مرة في العالم العربي عرفت أعداءها المباشرين، الذين يستغلونها ويذلونها ويستعبدونها، الجاثمين على صدورها منذ عصور ما قبل التاريخ... جميعهم عبيد للكراسي وسيفعلون اي شيء ليبقوا جالسين فوقها الى الابد... ها هو قائد ثورة الفاتح يطبق أساليب ونظريات القائد الضرورة بحذافيرها في التعامل مع الجماهير ليحول ليبيا دائميا الى جمر ملتهب... كل هذا وهو ليس رجل سلطة او حاكم... بل قائد ثورة!

الجماهير، لأول مرة، لم تصرخ بالصوت العالي ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية والصليبية الجديدة... رغم ان حماس وحزب الله وايران سيزعلون ويغضبون لانهم اصبحوا في المرتبة الثانية او ربما العاشرة. اسرائيل ستشعر بمركب النقص والدونية لان فقراء العرب وشبابهم لا يحسون بوجودها وخطرها وعظمتها ولا يعيرونها اية اهمية في تحركهم هذا. وحتى في امريكا واوروبا وآسيا فوجئوا بهذه الروح الجماهيرية المتعالية غير المعتادة بين الشعوب العربية، بهذا الاصرار والصمود والتحدي والتضامن بين الجميع، واعلاء المصلحة الوطنية العليا واحترام القانون والملكية العامة والخاصة والمرافق والمنشآت العامة، والزهد في القيادة والتوجيه.

الجماهير ارادت عملا، خبزا، رأسا مرفوعا، أملا... وكرامة! هل هذا كثير؟ نعم انه كثير جدا لمن لا يستطيع اعطائه... وهذه الانظمة لن تستطيع ابدا اعطاء هذه الاشياء.. لانها لا تفهم معنى هذه الاشياء وتستخدم السياسة والدين والثروة والعنف للحكم وللاستمرار في الحكم... مبدأيا، معظم الحكام العرب يريدون فقط السلطة الى الابد... ويستنكفون من النزول عند رغبة الجماهير التي تتظاهر بشكل حضاري وسلمي، وكأن الحكم ثوب ألبسه الله لهم ولا يجوز لبشر ان ينزعه... الا بسفك الدم والمؤامرات او الحروب او الغزو الاجنبي... اليوم يرتعد حتى الحكام الذين في القبور من رؤية الجماهير العزلاء من السلاح تتقدم للفداء والتضحية وتنجح في ازالة العتاة والمخلدين من الحكام والزعماء واصحاب العروش... وتحظى بالتأييد العربي الشعبي والمساندة العالمية رسميا وشعبيا.

وتمتد هذه quot;الثورة الجديدةquot; لتهزّ ايضا الفكر والنشاط السياسي التقليدي في العالم العربي، لقد شكّلت هذه الحركات الجماهيرية العفوية تحديا للحركات السياسية المعارضة والموالية على السواء بثوابتها ومتغيراتها... تحديا حتى لوسائل الاعلام الاخبارية العربية المتخصصة... وخصوصا للجزيرة والعربية اللتان تحاولان اللحاق بما يجري ومحاولة احتوائه من دون جدوى... الجزيرة تغادر على مضض خطابها الاسلامي المكرر والمزمن وتتحمّس للتغيير... العربية تحاول ان تبدو اكثر موضوعية وهدوءا في التغطية وقبولا بالتغيير بشكل عام.